الأرشيفثقافات

المذياع العاق:جلال حيدر يروي بذاءة الحياة

يلبس جلال حيدر ثوب القاص في أول تجربة روائية له، حيث قرر مخاطبة القارئ مباشرة، فقد يحدث أن يجيب عن  سؤال تبادر لذهنك وأنت تقرأ.ما يخلق علاقة إنصات بين القارئ و الكاتب،كأننا نشاهد  العلمي” بطل الرواية” في واحة الولجة، يقص علينا حكاية حياته القاسية ومعها مآساة بلد أنهكته النوائب.

 العلمي كان طفلا، لا يمر يوم إلا وتعارك مع أحدهم، مع الأسئلة المزعجة التي تُعجِزُ جدته، مع ذكرى أمه الغائبة بسبب قدومه للحياة، مع جسده ورغباته الملّحة، مع إبن عشيقته سعدية، ومع سكاكين صناع الموت والطرق الموحشة، مع قارورات البيرة، ودموع بائعات الهوى، مع نباح “بوبي”، وصوت المذياع في ال 404 المهترئة.

من الواضح أن الكاتب  قرر وضع القارئ في الصورة، حيث يغرس الديكور بروية، كاشفا عبر فصول الرواية عن أدق تفاصيل أبطالها من أنبلها لأخسسها وأقذرها، عن تفاصيل محيطهم الشاوي الحاد، الأصيل، والجامد، من  وشوم النساء، إلى بارود الرجال وقطعان الأغنام، والذئاب المتربصة (حيوانات وبشر)، ينقلنا حيدر من أدق  تفاصيل مخيلة مراهق لا يفكر الا في مضاجعة النساء إلى واقع رجل بالغ اغتصبته الحياة، وتركته “متكورا كالحثالة، في ردهة بالبيت”.

لم يجمّل الكاتب حوارات أبطاله، فقد كانت بذيئة على حقيقتها، قد يعاب عليه كثرة الألفاظ النابية لوهلة، قبل أن نتذكر بأن حوارات المراهقين بذيئة، حياتنا  بذيئة، ملاعبنا، باراتنا،مدارسنا..تحاصرنا البذاءة في كل مكان لنعترف بأن صفحات المذياع العاق ليست إلا ترددات ليومياتنا، نشيح  وجهنا عنها نهارا  ونعيشها بأدق تفاصيلها ليلا. فقد صارت حياة الليل وملاهيها الماجنة ملاذا بعد أن إحمرت ساعات النهار بدماء القتلى حينها.

 ” أما أنا فقد جئتُ هنا(ماخور) لأهدأ، لأفكّر، لأنبح، لأعوي، لأرقص حتى أسقط، كالدراويش الذين تثيرهم القصبة والبندير في الأعراس”

يصف الكاتب بدقة الحيرة، والسواد والعدمية التي جعلت العلمي يهتم بكل التفاصيل التافهة علها تملأ فراغ يومياته خاصة بعد الفاجعة التي ألمت به.والتي عجلّّت بإنهيار بنيان حياته كليا،رغم أنه لم يبنه بعد.

 “هرعت الى البولفار، حيثُ هبط الليل على الأزقة، والريح تسفّ الكراطين، والأغلفة، وأراقَ الأشجار، وأمامي بركة ماءٍ يتحركُ فوقها غلاف فلاش، مثل زورقٍ طويل، وبيت أمامه شجرة منكسة، وطلاؤه أصفر مقشّر، يجلبُ الغثيان، وصاحب البيت عند العتبة، يرقبُ بابَ المقهى، ربما يطمئنّ على أحدهم، وهو يمدّ يده تحتَ عمامته، ويحكّ شعره المقمل، وعندما شاهدني أقفُ لأشعل لفافة السبسي التي طويتها عند العتبة والريح تحاول قلبها في يدي، تثبّت من حاجتي الى الوقوف ليلاً أمام المقهى قبالة بيته، وأنا أعرف أن بناته متزوجات، ولم يبقى له غير زوجته، التي تكبر نانة بسنواتٍ، انه يرمقني بنفس نظرات حاجز التفتيش قربَ زقاقنا، حيثُ الجوقة اللعينة، تتربص المزلوطين والمنهكين واليتامى وأبناء الزنى ليزيدوا من ضحالة حياتهم”.

أحاط  الكاتب قصته وقصصه الفرعية، بخصوصيات المجتمع الريفي عموما، والشاوي خصوصا، حيث أفرد فصولا وفقرات تتكلم عن إقتتال الأعراش،” النيف”  الذي يؤدي إلى المقابر، عن قصص الحب و الجنس في الأحراش والحقول، التي نقلتها الألسن عن أجدادنا رغم إصرارهم على لعب دور السلف الصالح كل مرة. وعن ولع العائلات بعسكرة أبنائهم الواحد تلو الآخر فلا مستقبل خارج الثكنة.

 

“الناس هناَ يولدون متعجلين للإلتحاق بالعسكر، حين ينزل الصبي تضربه أمه على ترمته، وهي تهمس له (جندي ولا كابران)، ثم يأكل قليلاً من الكسرة ويحفظ الحمد لله، ويركض قليلاَ خلفَ النعاج، وربما يسبح في برك الواد، ولاتنتبه له حتى ينزل من سيارة حليقَ الرأس، يرمق شوارع الطين بنظرات باردة”.

رواية المذياع  العاق، جاءت كصرخة رجل ما،”محقور” ما،أي كان، لم يسمعه أحد،لم يُسمح له بالتعبير عن ألمه، عن جريه وراء الألوان التي فرت من حياته دون رجعة،المذياع العاق نشيد لمن ولدوا، عاشوا، وطحنوا على الهامش. دون مسكة أمل ودون ضوء ولو خافت،يخلق ظلا لمآسيهم علهم يستأنسون به.

جعفر خلوفي

 

 

 

 

.

مقالات ذات صلة

إغلاق