وطني
أخر الأخبار

الصحفي العراقي الملا منصور : إلى الأخضر البعيد … في يوم نصره المجيد

إلى الأخضر البعيد ….. في يوم نصره المجيد.
الكاتب الصحفي ميسر الملا منصور من العراق يكتب

يحتفلُ الشعب الجزائري اليوم ومعهم جميع العرب والشرفاء والمحبين في بقاع المعمورة ، بيوم عٌرس تأريخي سجل فيه الشعب الجزائري أسمى صور الفداء وجسد تضحية ابنائة بكل غالي ونفيس في سبيل الحرية والسيادة والرفعة…. إن ما يشدٌني لهذه المناسبة العظيمة هو شيء آخر مختلف بمعانيه وملامحه التي لا زالت تحوم في فضاء اللانهاية، لكي تسترجع ما علق في ذاكرتي من أيام الطفولة عن هذا الأسد العربي الأفريقي الذي تربعَ على عرش المجد والكرامة.

إعتاد أبي رحمه الله في طفولتي أن يُحدثنا عن الجزائر بلد المليون شهيد، لم تسعفني ملكات الطفولة حينها ان استزيد من المعاني والتفسيرات عن ذلك البلد البعيد، أو ماذا تعنيه كلمة شهيد. لكني اطلقتُ العنان لبراعة افكاري الطفولية الخصبة، فتخيلت أن الجزائر ربما تكون قرية كبيرة، ولكن هل الشهيد نخلة باسقة في واحة خضراء تحفها صحراء ممتدة ويستظل بها العابرون؟ أم أنه صخرة عظيمة مٌهابة تٌمسك جنباتها الجبال الشاهقة؟.

في مراحل لاحقة عندما ساقتني اقدام الفضول الى البيوت القريبة، استطعت ان اجد ما يفسر الشغف الذي شغل مخيلتي طويلاً. في غرفة الضيوف وفي زاوية عليا يمكن مطالعتها من جميع الأركان، رأئيتٌ صوراً مٌهابة لشباب بملامح طاغية الرجولة، تبرق عيونَهُم عزة،وتعتلي شفاههم شوارب غضة كأنها نسوراً تنتفض لكي تنقض على فريستها بسرعتها الخاطفة. عَلمت انهم ابناء عمومتي الذين استشهدوا مؤخرا في جبهات القتال إبان الحرب العراقية الايرانية، والذين توشحت من اجلهم جميع نساء القرية بلون الحزن الاسود، فعرفت آنذاك كيف لفت الجزائر حزنها السرمدي وجُرحَها المليوني بثياب العز وتراتيل الفخر…

كيف ننسى ما سطره الأمير عبدالقادر الجزائري ومن معه ، ومن تبع خطاهم من الثوار والمجاهدين الأحرار وصولا الى يوم الاستقلال من ملاحم البطولة ومعاني الرجولة في أبهى حٌللها. وكيف تقهقرت أمام إيمانهم بالله وقضيتهم العادلة فلول المستعمر المرعوبة ومصائد مكره الخبيثة . كيف أجبر الثوار مٌستبيح أرضهم أن ينحرَ نفسه في اتفاقية إيفيان ، زاد حبي للجزائر وتضاعف معه كرهي لكل من كاد لها، فحاولت ان اعرف المزيد.

عرفت الجزائر لاحقاً في كلمات الكاتبة الكبيرة أحلام مستغانمي، سافرتُ معها من على “مرفأ الأيام” ، فأوصلتني إلى شواطئ الروح وهي تنتشج الحياة “شهيا كفراق” .أحلام بنت “البهجة” التي تتكلم وهي صامتة ، والتي ماعادت (ترى جدوى من الجدال بعد سقوط بغداد، وما حلَ بالموصل من أهوال)، بكلمات قليلة اختصرت مسافات الحب الطويلة وبادلت أهلها في العراق، الذي اطلق اسم الجزائر على الاحياء السكنية في اغلب مدنه،،، أجمل صور الحب والتضامن.

كَبُرتُ وكبُر معي فخري بعظمة هذا الشعب الذي ضحى بأكثر من مليون ونصف شهيد، قرابين شرف لكي يطلق عنان عنفوانه ويحكم نفسه بأنفه العالي الابي. حلمتٌ ان تكتحل عيناي بذلك المكان البعيد وكانت الفرصة سانحة خلال زيارتي الاخيرة الى الشقيقة تونس، لكن مشاغل اخرى حالت دون ذلك. غير أني فعلتُها أخيرا،،، ليس بجسدي الذي لم يقوى على تخطي حدود سياسية مرسومة، وإنما بخيالي الممتد من القمم الشاهقة في (تاهات اتاكور) إلى مدينة (سيفار) الاعجوبة الثامنة التي حيرت الأبصار و أبهرت العقول، إلى الجزائر العاصمة مدينة العلم والادب والعمران والحداثة، ومن أقاصي الصحراء جنوباً الى شاطىء الابيض الفسيح شمالاً، حيث تعرفتُ موخراً على صديق جزائري أعادني من جديد إلى مسارح الطفولة المدهشة.

دعوني اقول لكم شيئاً…. لم اصادف في حياتي كلها شخص محب لبلده وعاشق لتُرابه مثل هذا الصديق، كانت عيونهُ البراقة تَشُد جوانحي وهو يتحدث عن ثورة الجزائر، شهداء الجزائر، المرأة، العزة ،الشموخ……وكثيراً ما يصدَحُ مسامعي بعبارة ” النيف والخسارة ” ،،، يا الله…….. كم هي غالية تلك النفوس التي لا تهون.

أحبتي .. كُنتُ ولم أزل ذلك الطفل الذي يراكم من بعيد…… فجاء اليوم بكلماته المتواضعة يشارككم وقفة إجلال وإعتزاز بشهداء الشعب الذين سقوا بدمائهم الزكية أرض الجزائر، فأزهرت خيراً ومحبة واطمئنان.. علموا ابنائكم أن حٌب الجزائر شرف، وعشقه أمانة ، والدفاع عنه مسؤولية الصغار قبل الكبار.

تحية حب وفخر من العراق ارض الرافدين وقلعة العروبة، الى الجزائر ارض المجد والبطولة…
الى الجزائر… ذلك الاخضر البعيد …. الذي شَغفَني حُباً بصغَري ، وملئَني فخراً وعزاً بكبري.

مقالات ذات صلة

إغلاق