ثقافات

في ريبرتوار موسيقى المالوف

حزن الكمنجا ثلاث مرات ..لرثاء صالح باي ولبكاء البوغي ولرحيل الملاك الابيض

اول ما تبادر الى الذهن ونحن نستقبل خبر رحيل آخر شيوخ موسيقى المالوف، القصيدة الرائعة التي اداها الشيخ محمد الطاهر الفرقاني “البوغي”، دون ما اي تفكير وكأنني أردت رثاء ملاك الارض الابيض حمدي بناني بهذه الطريقة على انغام الشجن وقصيدة الألم التي حيكت تفاصيلها على ارض الهوى قسنطينة بعد قصة حب مأساوية بطلها كاتب و مغني القصيدة ” جاب الله ” إبن مدينة عنابة و ” نجمة” ابنة مدينة الجسور المعلقة، ولعل ان حضور مدينة عنابة في هذا التفصيل حملنا اليه الحنين الى صوت الكامنجا التي رافقت ملاك بونا الى غاية رحيله، وفي صعود روحه الى السماء حزن ما بعده حزن خلدته نوتات كمانه الذي تربع على احضانه كطفل صغير.
حمدي بناني ..رحيل آخر شيوخ المالوف
برحيل فنان الجزائر وصوت عنابة الجميل وقلبها الذي ينبض بالحب والجمال والوفاء، لم نخسر حمدي بناني فقط للابد ولكن آخر عملاق من عمالقة تراث موسيقي كبير لم يبق من ابنائه الكثير. ويعد الراحل حمدي بناني من مواليد شهر يناير 1943 بمدينة عنابة، من اعمدة هذا الفن الموسيقي العريق حيث قدم لأغنية المالوف العنابي منذ سن 16 سنة العديد من الأعمال الفنية الراقية، حيث تعود بداياته الى اكتشافه من طرف خاله الفنان محمد الكورد، ليذيع صوته بعد استقلال الجزائر، وكانت باكورة أعماله أغنيته “يا باهي الجمال” التي نال بها جائزة الغناء الأولى، في إحدى المسابقات الفنية. مسار الفنان ياخذ منعرج النجاح تلو الاخر بريبرتوار موسيقي استطاع ان يضيف اليه لمسته الخاصة ببعد متوسطي لتكون “عدالة يا عدالة” و”محبوبتي” و”يا ليلي يا ليلي” و” جاني ما جاني ” وغيرها من ما يربو 30 أغنية خلدت اسمه عاليا في سماء اغنية المالوف التي كان من بين مطوريها رغم التحديات الكبيرة لذلك، فان تدخل العصرنة الى روح موسيقى المالوف لم يكن بالامر الهين والعارفين بامور الموسيقى ادرى بصعاب تحدي المدافعين عن كلاسيكية اي نوع ورفضهم للعصرنة، وهو الامر الذي تعرض له العديد من المحدثين سواء في موسيقى الشعبي او الاندلسي وايضا المالوف، لينال بذلك اعترافا دوليا فبناني من الفنانين الذين عملوا بصمت ونالوا الاعجاب داخل الوطن وخارجه.
المالوف …مفترق حضاري لموسيقى الاندلس على ارض مغاربية
وتطلق كلمة “المالوف” على أحد أبرز أنواع الموسيقى الأندلسية الكلاسيكية المنتشرة في تونس الجزائر والمغرب وليبيا. ويقال ان اسم “المالوف” العريق مشتق من كلمة “مألوف” وتعني “وفي للتقاليد”. وعلى غرار كل بلد احتضن هذا النوع الموسيقى القادم من بلاد الاندلس، احتضنت الجزائر هذا النوع المنبثق من كل جامع هو الموسيقى الاندلسية التي بدورها انقسمت الى مدارس وطبوع، فجاء منها الحوزي، الاندلسي، الشعبي والمالوف بحيث استوطن كل طبع منطقة من المناطق فاختار المالوف التربع على عرش الموسيقى بقسنطينة وعنابة والمناطق المجاورة لها في الشرق الجزائري. ومن هنا بدات الانطلاقة. تمازج حضاري متنوع للموسيقى العربية-الاندلسية على ارض الجزائر المغاربية التي احتضنت هذا الطابع بابنائها من امازيغ وعرب ويهود في صورة لتعايش ثقافي وتسامح حضاري فرضته هذه الموسيقى على كل الظروف، ولعل ان موسيقى المالوف هي من شكلت الاستثناء بحفاظها على هذا المزيج والتعايش لتشكل ارثا فنيا لا يضاهيه فيها احد. لكن هذا لم يستمر طويلا فحادثة اغتيال الفنان الاشهر في قسنطينة المعروف ريمون ليريس كان قد بدأ بالتأريخ لهجرة يهود المدينة نحو فرنسا وتونس وهو ما شكل المنعرج، فخسارة شيخ المالوف الشيخ ريمون لا يمكن تعويضه. ولا يقتصر غناء “المالوف” على القصائد والألحان فقط، بل يمتد الى كونه ملتقى للمقامات المغاربية العربية، بحيث يقابل المقام الموسيقي في “المالوف” النوبة وذلك لتناوب المقامات الواحدة تلو الأخرى، ويصل عددها في الأصل إلى 24 نوبة نسبة لعدد ساعات اليوم.
الشجن، الجمال والحب ..ثلاثية صنعت امجاد موسيقى المالوف
كثيرا ما تغنى اعمدة المالوف بهذه الثلاثية في مختلف القصائد التي ادوها، وتعبر بعمق عن صدق المشاعر التي تخفي الما حضاريا لم يندمل بمرور الزمن، فالمالوف اليوم يبقى شاهدا على الكثير من القصص والحكايا التي جاءت منها معظم قصائد المالوف. عن يهود مدينتي قسنطينة وعنابة ومدن جزائرية، عن قصص حب مستحيلة، عن فوارق اجتماعية واثنية ودينية شكلت عراقيل في وجه تشكيل مجتمع متجانس ثقافيا ولكن عراقيل صنعت جمالية موسيقى المالوف. وتروي العديد من الحكايات مرثيات المالوف على غرار رائعة “قالو لعرب قالو” حيث تترجم اشهر القصص مرثية صالح باي التي تحكي النهاية المأساوية لأحد أشهر بايات الحقبة العثمانية وأطولهم حكما على الإطلاق في بايلك قسنطينة، الملقب بباي البايات صالح باي. مرثية اخرى ارتبطت بجمال موسيقى المالوف وهي قصيدة “البوغي” التي ترجمت أسمى معاني التعلق بالعشيق والحب المستحيل. ربما حتى الالات الموسيقية التي عادة ما ترافق جوقة المالوف تحدثنا عن عمق الألم والاسى الذي يختبىء بين ثنايا كلمات قصائد شيوخ المالوف من الرئيس العود الى الات الكمنجا والقانون لتنطلق رحلة الاستمتاع بالحان تاخد الأذن الى زمان غير زماننا.
تغيرت ملامح مدننا وتغيرت اذواقنا معها وطباعنا ولم تتغير قسنطينة ولا عنابة ولا ناسها في حب والاستمتاع بموسيقى المالوف، فسكان هاتين المدنيتين بقيوا متشبثين بموسيقى الزمن الجميل فلا يمكن أن يتصور الداخل إليها ان تخلو منها، المالوف الذي ترجم افراح ولكن احزان المدينتين والشرق عامة بتخليد قصص وتراثا شعبيا، اليوم هو ايضا في حداد وحزن شديدين بالبحث عن شموع تضيء موسيقى المالوف الذي يعد رحيل اعمدته الواحد تلو الاخر.
بقلم طاوس اكيلال

مقالات ذات صلة

إغلاق