هكذا أفكر

تين زاواتين .. المشاعر لا تكفي

 

قبل نحو أربع سنوات زرت تين زواتين المتاخمة للحدود المالية، جنوب الجزائر، ويا ليتني لم أزرها لأنني لم أعد.

بقيت تلك الزيارة الأولى في مخيالي ولم تغادرني يومًا وأنا المعروفة بحبي الكبير لكل ما له علاقة بالصحراء، فهناك عرفت معنى أن تكون إنسانًا وأن تحي إنسانا، وقيمة أن تعشق وطنًا لم يُقدم لك شيئاً لكنك تظل تحبه بالمجان، لأن وطنيتك غير قابلة للقسمة.

المقام ليس للحديث عن حفاوة الاستقبال ولا عن المشاعر الجياشة التي أحملها ويحملها كثيرون مثلي لسكان هاته المدينة العزيزة على القلوب، لأنني عدتُ يومها إلى العاصمة عبر طائرة مكيفة تاركة ورائي عشرات إن لم نقل المئات أو الآلاف من قصص القهر والمعاناة والمشقة التي يحملها إخواننا هناك في صدورهم.

زيارة وفد حكومي أو مسؤول للمنطقة، يمثل للساكنة، بادرة خير أملًا في انتشالهم من الغرق في الكثبان: نعم لسان حال الشباب يقول : “نريد بدل حبات الرمل، بنايات ومساحات خضراء، ومحو صورة التهريب والهجرة غير الشرعية اللصيقة بمنطقتنا”.

لأن “المعروف عن السياسيين سقي الأشجار في المطر”، فإنهم “يجعلون من الصحراء جنة” بالكلام والخطابات الرنانة التي يتفننون في إلقاءها بوضع الرِجل فوق الآخرى والاستمتاع بتقشير حبات الفستق، دون أن يُغيّروا واقعًا بسيطًا مرتبط بجفاف الحنفية على سبيل المثال لا الحصر.

ولأن التواطؤ سمة السياسيين أيضا كما يُقال، فإن المسؤولين المحلين، يتفننون في تزين تلك المشاهد البائسة والتعيسة، عن طريق رفع صوت القرقابو في مشهد فولكلوري حتى يخفّ صوت الألم، ذلك ما يظنونه طبعًا. وما هي إلا ساعات حتى يغادر الجميع لحاله بينما تكبُر المعاناة ككرة الثلج.

لعل اكذوبة التنمية، هي أكثر ما يزعج في الخطب الرسمية، فبوتفليقة ظلّ لـ 20 عاماً وقبله كل الرؤساء يُردّدون، اسطوانة أن معركة سكان الجنوب مع التنمية، وأنهم نفس الجزائر الثاني للانتقال من تبعية البترول إلى اقتصاد متنوع ومتجدّد.

من باب أن نظرية المؤامرة قائمة فإن كل شخص يتحدث عن هذا الواقع المزيف فإنه سُيتهم بإتباع سراب غير مجد يسوق له بعض زبائن الفتنة، وستكون له الدولة بالمرصاد وستضربه بيد من حديد، وغيرها من مصطلحات ضاقت بها قواميس التهديد والوعيد.

الحقيقة، أن تفكير المواطن الصحراوي تغيّر ولم يعد كالسابق، فالجيل الجديد من الشباب واعي ومتعلم ومثقف ويبحث عن حياة وعيشة كريمة مثل أقرانه في الشمال وحتى في بقاع العالم، إذ لم تعد أساطير الوعود تقنعه وهو المحاصر بصور البيئة القاحلة وحرارة الطقس المرتفعة والعزلة القاتلة، التي لن يخففها حلاوة “دقلةَ نور” ولا الشاي الأصيل، أو حتى أجمل غروب في العالم.

من هذا المنطلق، على من في السلطة أن يدركوا هذا الواقع المستجد وأن لا ينظروا إلى احتجاجات مطلبية اجتماعية من نافذة ضيقة وكأنها سحابة عابرة في عز الصيف، فالحقرة والتهميش أكبر فيروس يُوقظ الشعوب من سباتها، من دون أن تنتظر تحريكاً من هنا أو هناك ولا أيادي أجنبية، كما تقول السلطة.

وبالتالي فإن حالة الإحتقان والغضب في عدة مناطق بالصحراء، التي شهدت احتجاجات في الأيام الأخيرة، وصولا للحادث المأساوي في تين زاواتين الحدودية مع شمالي مالي والنيجر، ما هي إلا نتيجة طبيعية لمن يضع قطنًا في أذنيه ويرفض السماع للرأي الآخر، ويخوّن كل من يعارض سياساته، وكأن الدولة يبنيها الأفراد وليس الجماعات.

والاستفزازات التي طالت سكان جنوبنا الكبير، بدأت من السلطة التي نفذت حملة اعتقالات مست عدة وجوه من حراك الجنوب، مستغلة أزمة صحية عالمية في محاولة لوقف أي عودة إلى الشارع بعد توقف للاحتجاجات دام ثلاثة أشهر بسبب وباء كورونا، وإن كانت السلطة تحمل نية المصالحة فعليها أن تبادر بالهدنة.
إيمان عويمر
16/06/2020

مقالات ذات صلة

إغلاق