الأرشيفثقافات

بقار حدة..الحلق البربري المهدور

صوت الحب،والثورة والنسيان القاتل 

في شتاء 1920 كانت قرية تيفاش في سوق أهراس تتهيأ لاستقبال أعظم حنجرة نسوية في الشرق، كان وقتها عيسى الجرموني يصاعد كدخان كثيف من جبال الأوراس، وجدت نفسها في عائلة فقيرة، وسط فلاحين يهرعون إلى الحقول، وكانت تلكَ أجمل انتصارات سنواتهم، لذلك لابد أن تنصتَ لغنائهم الصاعد بين أشعة الشمس الحرقة، والعرق الناضح من أجسادهم، وجدت نفسها وسط نساء موقرات، يلبسن ثياباً مزركشة، ويضعن أقمشة على أفواههن في الأعراس كي لا يشاهد أحد وجوههن عندما يهزجن بالأغاني على شرف العريس، كانت النسوة يسمين تلكَ الحلقة الرقيقة بالمحفل، وكانت حدة تمضي أوقاتها في محاولة تعلم كلماتهن العنيفة التي يكبحن أي محاولة لفهمها، لأن الثيمة الأساسية هي الحب الذي غالباً ما تثور لأجله صراعات تنتهي بموت بعضهم، عانت حدة كغيرها وسط تلكَ السهول، في مجتمع ذكوري يعتبر المرأة ملكة الظل، ربما الفرق بين هذه المناطق وبين مناطق أخرى أن المرأة تكون مبجلة ومحترمة إلى درجة لا يتخيلها أحد لكن في الظل لأن الرجل هنا لايترك مجالا لأحد أن يرى وجه زوجته أو أن يسمعها تغني، فالغناء في نظرهم دعوة للحب، لم تعجب حدة بأبناء قريتها رغم ذياع صيتها وسط النساء اللواتي يتحلقن حولها في الأعراس لسماع صوتها، حتى بداية سن العشرين أين أحبت عازف قصبة، اسمه ابراهيم بن دباش، عشقت قوته وقدرته الخارقة على استنطاق القصبة، لكن أهلها رفضوا أن يزوجوها من القصاب، ما اضطرها للهروب رفقته، من الصعب أن تقنع امرأة بالعدول عن موهبتها، امرأة اجتازت الرجال من أجل حبها، إنها مثل المجنونة قد تدهس الموت الذي في إثرها للوصول للحرية. توجت تلكَ الرحلة بأغنية قوية “فرخ القمري” التي تصف فيها السجن الذي كانت تعيشه مرددة”يمة حزروني ماننظرش، نشوف الخانة يمة مانصبرش، يمة كحل عينو محلا شبابو”.

رافقت زوجها إلى جميع مناطق الشرق، ووصلت إلى أكبر مسارح أوروبا، قادمة من البراري الموحشة، التي جابتها حافية من اجل الغناء والحب، كان لبداياتها أثر على كلمات أغانيها، إذ أنها أعطت الحب كل طاقتها على النظم، ولعل البعض ممن يفهمون كلماتها يصفونها بالمجون، لأن حدة أرادت أن تكسر ذلك الحاجز الذي صنعته القبيلة واستطاعت بأقدامها وهي هاربة، ثم بغنائها الذي وصل صداه إلى البعيد وأصبحت موضة النساء في الشرق اللواتي يحاولن بمناسبة أو بغير مناسبة أن يقلدنها، وعرفن التعبير الضّاري عن المشاعر الحقيقية، وأصبحت النسوة يضعنها قدوة لهن في حبهن للرجال، وكم من امرأة قطعت الحقول حافية من أجل حبيبها وهي تتمتم بأغانيها اللتي شحنت قوتها، غير أن هروبها من بيت والدها خاصة بعد فقدانها لأمها جعل الشوق والحنين يستنفدان طاقتها، أرسلت تغني “يابابا سيدي خرجلي لميمة، اعطيها ركابها، الحقوها ليا..” وفي أغنية أخرى ” قلت يا الالي ياقمح الدوك ..السماء من فراقك تندي، خالي غضبان قولولو يعدي..ردوني لبويا ردو…قلت الالي يحرن قلبو …مطحونة يا قلبي نايا… “

كانت أوصافها دقيقة وبارعة وتستخدم كل ما تأثرت به في بيئتها وهذا ما سهل على الناس فهم معاني أغنياتها، وتأويلها فتقول مثلاً ” زوز حمامات في الغربة نقاسي ، حمة ماجاشي يدهن راسي ، صب الرشراش وقطرو لقرابا..حمة ماجاش يسكن عنابة… احمل يالواد واحمل باحجارك…حمة ماجاش ويمشي على تنارو… صب الرشراش وتبلو كتافي ..حمة ماجاش يبدل بخلافي …صب الرشراش وتبلو لقواطن…حمة ماجاش يا زهو الخاطر… فرش لفراش وزيد الزربية …حمة ماجاش لعزيز عليا… فرش لفراش وزيد لمخدة ..حمة ماجاش اوقاعد يتغدا…احمل يالواد واحمل بالخصبة..حمة ماجاش اويضرب في القصبة…واش تحت الكاف تحتو لغروز ..حمة ماجاش ولاني محروزة… واش تحت الكاف تحتو لفناجل…حمة ماجاش نبات معا لهجاجل …. “

نلاحظ في هذه الأغنية بالإضافة إلى قدرتها على تشكيل جملة فريدة تنطق شاعرية إلى توظيف كلمات من محيطها وكما ذكرت هذا هو الجانب الأصيل في أغنيتها الذي منحها خصوصية كبيرة وفهما من قبل كل مريديها من منطقتها ” زوز حمامات… صب الرشراش… قطرو لقرابا…الواد .. لقواطن… الزربية …الكاف..لغروز …” وغيرها من الكلمات التي تستعمل في حياة القرويين بكثرة، من الصعب على غير سكان هذه المناطق فهم معاني رمزية أغانيها، إذ أن معنى /صب الرشراش/ هو تصوير لتساقط المطر بغزارة إلى درجة أنها تناجي الواد أن يأتي بعنف ويجرف معه الحجارة وهي تعني بذلك صخور الشوق لمحبوبها الذي تتساءل فيما بعد مالذي يوجد تحت هذا الكهف؟ ثم تجيب : يوجد (لغروز) أي الحماة، ومع ذلك تقول أنها دون حبيبها ليست في أمان ،وسط الأرامل …الذي يفهم حدة سيدمنها لأنها لم تضع فرصة للغناء عن الأشياء البسيطة في حياة القرويين وساندتهم في معاركهم وحروبهم وحبهم وواستهم في موتهم وبكتهم في غربتهم ومنحت كل هذه الثيمات جمالية وعمق كبيرين، حدثت قصة حب بين شخصين في الحدود بين خنشلةوتبسة أدت إلى قتل الشاب من قبل أخ حبيبته وابن عمها قامت حرب بين الأعراش فيما بعد لذلك السبب، ورثتهم حدة بأغنية لازالت تزلزل كل من يسمع لحنها الحزين “روح يا الشايب روح ..وليدك جابو ربي واداه… جاني معا لعشية، دخلتو واسهرت معاه … خرجتو معا البكرية، نحلف حد اولاراه…قتلو خويا وبن عمي… ضربوه على ريشة قلبو.. حتى الدم كساه… قول لأمو تسجيلو كفنو وعشاه” .

تختلف حدة بقار عن عيسى الجرموني في طبعها الغنائي لاختلاف مناطق عيشهما رغم أن كليهما يتنقل إلى جميع أراضي الشرق الجزائري، عيسى يعرف طبعه بالصراوي أي غناء القمم الذي يعتمد على قوة الصوت وعنفوان الأداء، أما حدة فيقترب أداؤها من الركروكي الذي يعرف بالهدوء والرزانة في الأداء وحتى الرقص يختلف بين هاذين الطبعين الغنائيين، لكن كلا الفنانين يلتقيان في نقاط عديدة حتى في موتهما فيما بعد…
لم تهمل حدة الثورة في أغنياتها بل كانت مدفعا يقذف الفرنسيين ويشحن عنفوان المجاهدين ما اضطر العدو الغاشم لاستأصال أنفها لعلهم يخمدونها نهائيا ليتخلصوا من شقاوتها لأنهم يعرفون حجم تأثيرها على نفسية المجاهدين الذين كانوا ينتشون بغناء بعض المقاطع في عز المعارك وتجد آخرهم يتقدم الجميع للقتال لأنها تحرضهم على البطولة والرجل في هذه المناطق يقدس قيمته ويسعى للبقاء كبيراً وشجاعا وبطلا خارقاً في أعين النساء .

بعد فقدانها لزوجها ورفيقها في مسيرة حافلة بالمخاطر والألم والحب والغناء إنطوت حدة على نفسها في شقتها أين كان يزورها أحد الشباب الذين تأثروا بفنها وهو الذي كان يقدم لها ما تحتاجه، بينما بقيت منسية ومهمشة ولم يلتفت لها أحد رغم أن صوتها يخرس الجميع ويجعلهم يذبلون أمام عظمتها، تنازلت عن الشقة فيما بعد لعائلتها، ربما مكرهة، وعادت إلى كوخ في عنابة، حيث ستموت في سنة 2000 مشردة، تاركة إرثاً لم يلقى اهتمام النقاد الذين يتراكضون خلف أغاني لن تبلغ عمق وجمال الذي تركته حدة المجاهدة التي لم يعترف أحد بها، لأنها حقيقية ولم تسعى للكسب ، لقد احترفت العطاء.

جلال حيدر

مقالات ذات صلة

إغلاق