الأرشيفثقافات

محمد بومعراف..يكتب عن تفاصيل الحزن المنسية

 تذكرة سفر مقلوبة مجموعة قصصية للكاتب الصحفي والمترجم  محمد بومعراف عن دار الأوطان لسنة    2016.
كتبت المجموعة في خمسة عشر قصة مستقلة عن القصّة التي قبلها  ،يروي القاص  محمد بومعراف من خلال كل سردية حدثا ما ،تفصيلا قد نهمله عمدا، وقد تخوننا الموهبة ،في أن نغزل منه حكائية نسابق الزمن لنكتب نهاية لها ،نهاية نتغلب فيها على المنطق أحيانا ،ونخضع فيها للأمل والوهم أحيانا أخرى.
و لأن القصّة ماهي إلّا أحداث قد نعايشها يوميا , لكن قليلون من يملكون القدرة على محاكتها على الورق بتفاصيل ننتبه لها لأول مرة  وبإخضاع  الحدث إلى الشّروط الأدبية لتكون قصة  تراعي أركانها الأدبية .
ولأن القصة  هي رواية الحكاية , فهي سرد للحظة ما, لتاريخ  شخص  ما في مكان ما , كأن يقتني القاص من شريط  حياة أي شخص , أو مقاربة  لحظة يقدرها الأهم ويبني عليها تفاصيل الحكاية لاحقا , تلك اللحظة هي التحوّل  الذي يعطف  بتسلسل الحكائية إلى لحظة أكثر ديناميكة , إختار محمد سردياته وشخوصه بإتقان عال ,ملامسا عطبًا  ما في حياة شخوص  مجموعته  محاولًا  استنطاق خيبات أمل في أكثر من حكاية . 
يهمل محمد بومعراف عمدا تحديد المكان والزمان بدقة  في جلّ سردياته  ذلك أن  القارئ  يدرك دون عناء أن  القاص يحاكي واقعا جزائريا  ويأتي إهمال الزمن مقبولا طالما أن حياة البشر قد تعاد  بتفاصيل مختلفة  في أماكن  متفرقة.
إختار القاص  كتابة القصص برؤية الكاتب المتزن يستحضر عاطفته  ويصف ويقارب ويسخر ، لكن يقف بعقله محايدا حين يقترب من النهاية، الذي يعرف  الكاتب يفهم لما اختار أسلوبه العقلاني في رواية التفاصيل ذلك ،أنه يعي تماما أن الأمل إن لم يكن نابعا من الواقع سيكون محاولة لبيع الوهم على شكل سرديات.
تذكرة سفر مقلوبة كان عنوانا لمجموعة قصصية كتبت  في 144صفحة بعناوين منفصلة يعكس كل عنوان بعبقرية تفاصيل ما روي على لسان الكاتب ، أختير عنوان المجموعة من عنوان أحد القصص ،التي يروي فيها محمد التقاء شاب بحسناء نبهته بعد فشله في تجاوز الشىريط في محطة الميترو أن تذكرته مقلوبة والتي كانت سببا في تعرفه على رفيقته، خلال رحتله. أين يتجاوزا محطتا وصولهما إثر انشغالهما بأحاديث تعارف , اختيار هذا العنوان لكامل المجموعة كان جد موفّق ،حين ندرك أنّ جلّ القصص التي كتبت، كانت تروي سفرا ما ،رغبة ما في إستبدال واقع بواقع أقل بؤسا ومرارة ،محاولة للبحث عن أبواب أخرى تولج تفتح أفاقًا جديدة ،و إمعانا  في نقل الواقع بوفاء على الطريقة  الجزائرية.  ختم محمد النهايات بخيبات أمل لشخوصه  وهو ما تحاول التذكرة المقلوبة وصفه  بعناية  فرمزية  العنوان  تعكس النهايات البائسة  كل  تذكرة مقلوبة لا توصل لواقع أفضل قد تمنحنا بعض الأمل لكن لا تغير بالضرورة واقعا بائسا.
أحلام مؤجلة 
كانت القصة الأولى التي بدأ بها  الكاتب مجموعته , لبطال جامعي تمنعه البيروقراطية من تحقيق حلم طال انتظاره في وظيفة  بشهادة  جامعية جعلته محل سخرية لينتهي به المطاف عاملا في مقهى .
أجابه بهدوء متكلف يخفي بعض الغصة أنه درس أمورا في الجامعة و  يريد أن يعمل فيها رد، الآخر ضاحكا
 “أٔ نتا درست علم البحر و السردين نصيدوه من البحر ها ها ها ”   ضحكة أشعرته بإختناق و رغبة في الانفجار ، أصبح هوو دراسته  العليا نكت بائع السردين المتجول..
يواصل الكاتب محمد بومعراف  تفاصيل حلم الشاب البطال في حصوله على عمل خاصة بعد أن تلقى وعدا مؤكدا أنه سيحصل على مركز مهم لذلك  يصمت أمام السخرية ولا يرد 
…..
اليوم  هو يوم الكرامة أو بدايتها، سـينتقم من المرحلة  السابقة، سيتفنن في السخرية منها و من الذين لم يدركوا قيمة العلم الذي يملك  ربما سـيهينهم ، لا لا، سـيعاملهم معاملة  المنتصر الذي يعفو عند رؤية خصومه مسـتعطفين أو سيكتفي برؤيتهم يغيرون نظرتهم إليه و ينادوه مثلا “سي ،”كريم يشعر بانتعاش و تفاؤل كبير .
غير أن  الحلم  ينتهي بخيبة ليعود  الكاتب لمرحلة الصفر مجرد بطال 
…..
لقد تم تأجيل اسـتحداث المنصب حاليا للأسف، لكنه تأجيل و ليس إلغاء و أنا متفائل جدا أنه خلال السّـنة المقبلة سـتكون معنا في الإدارة بل سـتكون مساعدي المقرب!
ينتهي الجامعي  عاملا  في مقهى الحي بعد قبوله بعرض صاحب المقهى 
….
هل ترى في مظهري نادلا   يحضر الشاي و القهوة للمعتوهين.! 
– يضحك صاحب المقهـى و يجيب
لا طبعا سي كريم,أنت مكانتك  أكبر تليق مدير كبير حتى يفرج ربي و تلقى منصب المدير اقبل بمنصب مسؤول الخزينة 
– ليس لدي الوقت للضحك !
-لا اضحك,أريدك أن تمسك الحسابات عندي،لدي أشغال أخرى و أحتاج شخصا ذكيا و أمينا و أنت أول واحد جا في با لي و لن  تقدم شايا أو قهوة لأي زبون، هم من سـيأتون عندك ليدفعوا ثمن طلباتهم و ٔأعطيك عشرين ألف دينار راتب ٔ ما رأيك؟
 – يفكر قليلا ثم يحسم أمره
 – نعم أقبل متى أبدأ العمل ؟
 .
هل كان محمد القاص يائسا لدرجة أنه لم يستثني أي سردية من سردياته من مسحة الحزن النهائية ؟ يبدو الكاتب عقلاني حين ختم القصص بنهايات مخيبة ذاك أنه يرفض أن يزيف الواقع أو أن يجمله بنهايات سعيدة كما يحدث عموما في القصص .
يكتب محمد  بومعراف بأسلوب بسيط ولغة غير متكلفة عكس بعض الكتاب من جيله الذين يغرقون في المحسنات على حساب الفكرة يتجلى ذلك في هذه الجموعة نجاح الكاتب في المقاربة بالواقع فالكاتب لم يستحضر حكايات من مجتمعات غريبة عن المجتمع الجزائري ،عمل على إستنطاق شخوص قصصه ، بالوفاء لذهنية الجزائرية ، بالنهايات التي يوفرها الواقع الجزائري المليء بالتناقضات، حاول من خلال الكتابة التنويع في أكبر عدد من المواضيع التي ألهمته  أو الحياة التي ألهمته كما  يقول هو عن نفسه  في كتابة الإهداء .
 ختم  القاص  الأحلام المؤجلة بخيبة  ليفتح  شهية القارئ  حول المزيد من إكتشاف الخيبات على شكل حكائية ،كتب محمد عن الحبّ والخيانات في زمن المعلوماتية محاولا تقمص إحساس وهواجس وشكوك امرأة تتعقب عبر الانترنت خيانة زوجها مع امرأة لم تكن في الحقيقة إلّا هي لتنتهي القصة بعلاقة زوجها الغرامية معها لتكتشف أنها في الحقيقة مجرد سراب .
تنوعت باقي القصص لتروي تارة تهميش الدولة لقرى وحياة بشر يقاسموننا الوطن لكننا لا نسمع عنهم ركز  صاحب العمل، في قصة زيارة مهمة على حدث واحد مركزي وهو زيارة الوزير لقرية مهمشة  فالحدث عادة يكون مركزا وعميقا يمنح القارئ دعوة لاستنطاق مخياله مستكملا ما يراه  فجوات ,  كما تمحورت القصة حول  شيخ  القرية سي جلول  الذي أعطاه الكاتب عناية اذ أنه الشخصية التي تصنع تفاصيل القصة ، فهو الذي يعتني  بأدق تفاصيل التحضيرات لزيارة الوزير لقريته المنسية المهملة التي  يحاول الشيخ  جلول تقديمها أمام الوفد المرافق للوزير في أحسن حلة ،مع أنها قرية مهمشة وفقيرة. وهو حال كثير من القرى الجزائرية التي يمارس عليها التجاهل لينهي القصة بالسخرية من الطريق غير المعبدة التي حالت دون وصول الوزير لتفقد هذا المكان القابع أسفل الجبل و المفصول عن العالم.
…..
الو من معي ؟؟
 معك مرافق الوزير 
أهلا سـيدي! نحن في انتظاركم
– لن نأتي ،ألغيت الزيارة  لقريتكم، الطريق ٕإليها سيئة و خطرة و تحتاج ٕ إلى إصلاح ، أولا  كيف تتوقعون مرور موكب الوزير بطريق بهذه  الخطورة ؟أصلحوا طريقكم أولا .
-سلام
 يبقى الشـيخ جلول صامتا للحظات ثم يجلس على الأرض و بجلس البقية مثله من فرط ٕ الإعياء، يتأمل الطر يق قليلا يسأله الباقون عن الأمر 
– لن يأتي لا بدّ من إصلاح طريقنا أولا.
يعتمد  الكاتب محمد بومعراف على  خطاب سردي  بسيط غير  متكلف ولا ساقط  في محسنات اللغة على حساب النص  فهو حاول إيصال فكرته  من خلال لغة غير معقدة و أحداث  بسيطة لكنها عميقة في  أن  يصل  للعقدة بمنتهى السلاسة  فيفكها بما يصدم  القاريء 
يتحرر القاص من اللغة المثقلة  بالبلاغة  ويصنع  لغته  البسيطة  متجاهلا مرجيعيات ادبية محددة يختار بعناية المسار الزمني لقصته  فيمده متى شاء ويختزله متى شاء 
يعاب  على محمد اهماله محاكاة الخيبة  النفسية  في داخل شخوص قصصه  وعدم التطرق لها بالتفاصيل وربّما هذا هو عيب القصة القصيرة أنها لا تمنح مساحة  أكبر للكاتب  كي يضيء كل الأماكن  التي تشوق القارئ.
سماعلي كريمة

مقالات ذات صلة

إغلاق