الأرشيفثقافات

فيلم البئر.. الطريق إلى الأوسكار!

من النادر أن ينجح مخرج سينمائي في التحليق فوق عدّة مواضيع تتعلق بالثورة الجزائرية، من المرأة إلى الحركى مرورا بهمجية المستعمر، دون استحضار أبجديات أفلام الثورة التي طغت على هذا الصنف منذ عقود. لطفي بوشوشي استطاع أن يرفع التحدي ويُشّكل مشاهد جمعت البساطة بالقوة، وكان له الفضل في اختصار مسار الثورة ببئر وجسر ودشرة ومجموعة من الجنود الفرنسيين.

كل ذلك، دون حاجته إلى بطل كلاسيكي ذو قوة خارقة قد تجعل من الفيلم يغرق في رومانسية لا تليق بمقام حدث كبير كثورة التحرير، رفع مفجروها شعار “الشعب هو البطل الوحيد”، فكانت الدشرة الظمآنة في فيلم “البئر” هي البطل الوحيد، بنسائها وشيوخها وأطفالها. قد يصر لطفي بوشوشي على أنه “مجرد” منتج ومضات إشهارية وبأن ذلك صقله على الاختصار والدقة دون الاهتمام بالتفاصيل الهامشية، لكنه في فيلم “البئر” صنع من الكثير من “التفاصيل التاريخية” التي نادرا ما تذكر مادة خاما لفصول مأساوية تجبر بقوتها مشاهدها على الانغماس في ديكور تلك الجلسة المغلقة التي تدور مجرياتها في دشرة ما.

لم يحدد المخرج حتى مكانها ولا زمان أحداثها، وكأن به يريد القول أنها تمثل كل قرى الجزائر على مر عهد الاستعمار وفترة ثورة التحرير ولا داعي للتخصيص. من المفارقة أن من يصف نفسه مهملا للتفاصيل أن ينتج فيلما مجمل قوته في تفاصيله، فإن كان فيلم “البئر” منقوصا من الارتدادات ومجمل أحداثه خطية، فإن “بوشوشي” اعتمد كليا على مونطاج ذكي للقطات التراجيدية التي تتنامى تدريجيا في الفيلم منسجمة في ذلك مع انكشاف الحبكة شيئا فشيئا دونما استعجال أو تأخر، إلى أن يصل الأمر مداه مع ذلك المشهد المرعب لأم تدفع بابنها إلى الموت المحتم قنصا من طرف جنود المستعمر خشية أن يقتله العطش، ثم تتراجع في آخر لحظة بعد عدة طلقات تحذيرية، فلخص “بوشوشي” بذلك مدى مأساوية وضع الشعب الجزائري خلال ثورة التحرير، ولو لم يرفع السلاح ضد المستعمر، ولو كانوا مجرد نساء وأطفال. فيلم “البئر” دأب أيضا على رد الاعتبار لدور المرأة الجزائرية خلال ثورة التحرير ومن خلالها إلى كل الشعب، بما فيهم من كانوا بعيدين عن مجريات الحرب، في مشهد نهائي سريالي وبتقنية تصوير متقاطعة تتخللها موسيقية تصويرية متناغمة بين الإيقاع البطولي والتراجيدي، لساكنة دشرة كلهن نساء يتقدمهم شيخان متحدين في مواجهة الموت والتمرد على الحصار المفروض عليهم أمام حيرة قناص المستعمر الفرنسي الذي تردد بعد إعدامه للشيخان وامرأتان طالبا تأكيد قائده على مواصلة مجزرته، وكأن بالمستعمر يتساءل:

ما الفائدة من تقتيل شعب كامل لم تردعه الموت وهو في جميع الأحوال مصر على النضال؟ فيلم “البئر” كما وصفه مخرجه تكريم للمرأة وللعزل وللمجاهدين ولسكان القرى والمداشر وهو عمل فني سعى مخرجه ونجح في تناول عدة مواضيع محلية وإنسانية يصعب تلخيصها، لكنها كلها طرحت بطريقة ذكية ودون جرعات زائدة، كموضوع الماء والعطش الذي ظل حاضرا طيلة الفيلم من خلال شبح ذلك البئر الذي وإن لم يظهر كثيرا في الفيلم إلا أنه تقمص دور الشرير طوال أحداث القصة وظل هاجسا للمشاهد رغم إختفائه من المشهد في أغلب الفصول. فيلم “البئر” هو أيضا تكريم رمزي لكل من صنع مجد ثورة التحرير دون الوقوع في فخ الاختصار والتبجيل المفرط، فلا بطل واضح وصريح في فيلم “بوشوشي” سوى الشعب ولا ممثل يطغى على البقية لا بالحضور ولا بالخطاب، ولعل أبرز ما في فيلم “بوشوشي” من الناحية الفنية هو “بوشوشي” نفسه، وهو ما يفسر ربما قوة إقناع الفيلم ومنحه المشاهد رغبة في البحث أكثر في موضوع الثورة، تماما كما تقنعنا الومضة الإشهارية (الناجحة) في اقتناء المنتوج المعني.

نسيم براهيمي

مقالات ذات صلة

إغلاق