آراء وتحاليلنقطة تفتيش

منطق الأقليات بقلم اسماعيل مهنانة

مؤخّرا تنبّهت الولايات المتّحدة الأمريكية إلى أهمّية الأقليات في بناء أية ديمقراطية حقيقة، ولكي تعطي نموذجا للعالم، بوصفها أكبر وأهم دولة فيه، اتجهت القوى الحية فيها إلى دعم الأقليات السياسية والثقافية والجنسية حتى لا تكون أقليات، فقد دفعت بالمرشّح أوباما بوصفه من الأقلية السوداء لكي يتبوّأ الرئاسة وقبل كل المجتمع الأمريكي ذلك بصدر رحب، وفي عهدته اتجهت كل السياسة نحو إخراج الأقليات إلى ضوء الاعتراف بدل ظلام الهامش، الاعتراف بزواج المثليين والهنود الحمر، والخ… واليوم تتجه أمريكا نحو الدفع بأول امرأة للفوز بالرئاسيات حتى تنهي أسطورة المركزية الذكورية إلى الأبد.
لنتأمّل النموذج ونُحاول إسقاطه على واقعنا، واقع الدولة الجزائرية والأسس التي قامت عليها وسياسة الأقليات فيها. ولنتّفق أولا أن مفهوم الأقلية لا يعني بالضرورة الأقلية الديموغرافية، فقد تكون الأقلية ديموغرافية في مجتمع ما لكنها تُهيمن سياسيا وثقافيا، وهي الحالة الغالبة في معظم في البلدان العربية، كما أن الهيمنة ليست سياسية فقط ولكنها أيضا ثقافية، وهي الأخطر والأطول تعميراَ. فالنّساء مثلا، أقلية في كل مجتمع ذكوري حتى ولو شكّلوا نصفه. ولقد كان الجزائريون، زمن الاستعمار، أكثرية ديمغرافية محكومة بأقلية أوروبية (9 ملايين مقابل 1مليون) وعلى أغلبيتهم كانوا أيضا أقلية سياسية وثقافية داخل النظام الكولينيالي.
لقد انبثقت الأمّة الجزائرية في الأصل نتيجةً لثورةٍ على نظام الهيمنة هذا، لكن سرعان ما تأسس نظام هيمنة مشابه لسابقه في تهميش الأقليات وإسكاتها، فقد قام النظام الجديد أولا على طرد مئات الآلاف من الأقدام السود والحركى واليهود إلى الخارج ثم تفرّغ إلى أقليات الداخل فأسكت الأقليات اللغوية والإثنية الكثيرة باسم العروبة، وقمع أقليات المثقفين الفرنكفونيين باسم التعريب، كما أرسى نظاما ثقافيا ذكوريا ضد المرأة وحرياتها، وهجّر آلاف الإطارات لدوافع إيديولوجية محضة، ولا نتكلّم عن أقليات جنسية في مجتمع رجعي وإقطاعي مُعضد بتلك السياسة، لقد هيأ النظام كل الشروط والتربة الخصبة لقيام مجتمع شمولي ومغلق.
لقد تأسس النظام السياسي والاجتماعي، منذ البدء على الخوف من التعدد والاختلاف وقمعهما، وعلى أسطورة “الشعب الواحد”، ولهذا بقي ولا يزال يجني المآزق والأزمات وبقي يعيش في حالة هرب دائم من مواجهة هذا التعدد بالحلول الديمقراطية، وتأجيل أية عملية جراحية سياسية تشفيه أو تقتله.
المفارقة أنه كلّما اتّجه مجتمع ما أو نظامه السياسي نحو الشمولية وأحادية التفكير، كلّما نتج المزيد من الأقليات والهوامش قد لا تكون موجودة من قبل. والعكس، كلّما انفتح النظام السياسي على هذه الأقليات بالاعتراف، كلما نزع عنها صفة الأقلية وصهرها في الأكثرية، هذا ما يفسّر توجّه الأمريكيين، ولو رمزيا، بتشريح رؤساء الأقليات (السود والنساء) فهذا وحده كفيل بنزع فتيل التمييز والاحتقان. إن ما يكون مجرّد فئة يجمعها مطلبُ حقوقي أو اعترافي قد يتحوّل في مجتمع شمولي إلى أقلّية مُلحّة ومزعجة كما قد يذوب بسرعة في مجتمع ديموقراطي يتقبّل الجميع، ولهذا فإن مجتمعاتنا الشمولية مؤهّلة أكثر لتحويل مطالب فئوية بسيطة إلى مطالب أقلّوية.
في المجتمعات الديمقراطية يزداد الاهتمام أكثر بالأقليات والمهمّشين والمختلفين، ليس من باب العدالة فقط، وإنما لأن الهامش يمثّل متّكأً نظريا وزاوية نظر نقدية إلى المركز. إننا لا نستطيع أن ندرك موطأ الهيمنة والإقصاء حين ننظر من المركز، ولهذا يكون ووجود الهامش في حد ذاته نقدا للشمولية والفكر الأحادي، كما يكون مجتمع الأقليات المتعايشة أكثر قابلية للديمقراطية وأقل عرضة للهيمنة. ولهذا تنزع الأنظمة الديكتاتورية دوما إلى تنشيط عناصر الهويات الشمولية لإخراس التعدد وإسكات صوت الأقليات، فإذا لم تجده في اللغة تبحث عنه في الدين وإذا لم تجده في الدين تخترعه باسم إيديولوجية سياسية ما.

بقلم اسماعيل مهنانة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق