آراء وتحاليلبذور الأمل

من اللانظام إلى اللانظام بقلم مريم سعيداني

حالة اللانظام التي كانت تسود الحياة البدائية، والمشاكل التي عرفتها الجماعات نتيجة تسلط أفراد ضد اَخرين أو جماعات ضد جماعات أخرى، كانت تهدد وجود الأفراد. من أجل بقاء و ازدهار الجماعة، قام الأفراد وفق عقد معنوي بالتنازل عن أنانيتهم الفردية أمام الجماعة و ذلك بالاتفاق على تنظيم يساعدهم على البقاء. كانت هذه أول ملامح تشكل شيء اسمه الدولة. غير أن كل مجموعة أو كل دولة قامت ببناء شخصيتها المستقلة وفق التراكمات و التجارب التي عاشتها شعوبها عبر المراحل التاريخية. هذه الشخصية المستقلة و المميزة للدول ضمن حيز جغرافي محدد جعلتها تتمسك بشيء اسمه السيادة، أي الحق المطلق في ممارسة السلطة السياسية في الحيز الجغرافي المذكور.
الدول في تطورها حاولت تنظيم طرق سيرها فظهرت الأنظمة السياسية. فالنظام السياسي هو طريقة تسيير الدولة. و النظام السياسي يعني الكل المنظم من مؤسسات سياسية كأجهزة الدولة، ومن فواعل سياسية مثل المواطنين،الأحزاب سياسية، نقابات، و من المعايير و المعتقدات السياسية ، و من القوانين، و من العلاقات السياسية أي بين الحاكم و المحكوم، بين الدولة و المجتمع، و أيضا العلاقات مع الدول الأخرى. طريقة ايجاد التوازن بين كل هذه المكونات للنظام السياسي هي التي تحدد طبيعته. في وقتنا الحالي يمكن تلخيص أنواع الأنظمة السياسية بشكل مختصر في ثلاث أنواع أساسية: نظم ديمقراطية، نظم شمولية، نظام دكتاتورية.

الجزائر تعرضت لاستعماراستيطاني دام قرابة قرن و نصف، حاول من خلاله المستعمر طمس التراكمات التاريخية الموجودة في المجتمع الجزائري من أجل ضم هذه البقعة الجغرافية كامتداد له. هذه الفترة الطويلة أخرجت الجزائر من التاريخ و أوقفت حلقة الانتقال التراكمي إلى شيء منظم اسمه دولة.
لم تعتدل أمور الجزائر بعد استرداد السيادة، فالأشخاص الذين استحوذوا على الحكم باسم الشرعية الثورية فرضوا على الجزائر النظرة الأحادية في الحكم و التسيير، و نهج اقتصادي مازلنا ندفع حتي اليوم فواتير عيوبه. فمنذ الاستقلال إلى أن أخرجت الأزمة الشعب إلى الشارع في أكتوبر 1988، كان نظام الحكم في الجزائر شمولي، يسيره الحزب الواحد و النظرة الأحادية تم خلاله قمع كل محاولات التعبير عن الاختلاف في وجهات النظر السياسية أوالاقتصادية .

غليان الشارع و الظروف الاقليمية و العالمية نتيجة تصدع المعسكر الاشتراكي أجبر النظام الشمولي لتغيير قواعد تسيير الدولة. الاصلاحات السياسية التي أريد بها القفز مرة واحدة من نظام شمولي إلى نظام ديمقراطي دون الأخذ بعين الاعتبار مخلفات نظام دام عقود من الزمن، بعد فترة طويلة من الاستعمار لم تنجح. لم يتم أي تحضير للمجتمع ولم يؤخذ بالحسبان المخلفات السلبية للنظام الشمولي، التي كانت نائمة في المجتمع، ما أدى إلى دخول الجزائر في فترة عنف داخلي لا مثيل له و حصار خارجي أدخل الجزائر في عزلة رهيبة. رغم ذلك كانت هناك نية لتدارك الأمور و تنظيم قواعد النظام السياسي و تكريس التداول على السلطة في دستور 1996.

في 1999، بعد كل التغيرات التي عرفها النظام السياسي الجزائري منذ الاستقلال، كانت الجزائر مهيئة للدخول في عهد جديد من البناء الديمقراطي، فلقد خرجت من دوامة عنف شديد بفضل رجالها ورغم الحصار الدولي و الظروف الاقتصادية السيئة، تلك الظروف المالية التي لم تعتدل فحسب، بل ارتفعت بطريقة اسطورية نتيجة الارتفاع المذهل لأسعار البترول. ما حدث هو أنه من استلم السلطة قام بغلق الساحة السياسية و التضييق على كل أشكال الحريات، تم تركيز كل الصلاحيات الدستورية في يد شخص ليصبح هو الدولة، و قام بتغيير الدستور ليعطي لنفسه حق البقاء في السلطة و غلق باب التداول عليها. النظام السياسي الجزائري بعد أن كان شموليا أصبح مستبدا.

في 2011 عادت الظروف الاقليمية للضغط على النظام السياسي من أجل مراجعة نفسه خوفا منه أن يلقى نفس مصير الأنظمة التي تشبهه. فقام ظاهريا بإصلاحات سياسية ما فتئ أن ندم عليها بعد أن قام بأقلمة خطابه مع تداعيات الثورات العربية.

تداعيات الثورات العربية، مشروع تغيير الدستور، و ترشح الرئيس لعهدة رئاسية رابعة في ظروف صحية سيئة، هي بعض الظروف التي صنعت حراكا سياسيا كبيرا في الجزائر و أظهرت نية النظام في عدم التنازل عن السلطة بشكل ديمقراطي كونها أصبحت في نظرهم ملكية خاصة. و أظهرت أيضا بعض الظروف الصحية في المجتمع تتمثل في وجوه جديدة من الناشطين في أحزاب سياسية أو في المجتمع المدني ترفض منطق السلطة بشكل علني و تطالب باسترجاع المكان العام كمسرح للتعبير عن أفكارها بشكل سلمي و متحضر. ظهور أيضا قنوات تلفزيونية و جرائد إلكترونية تنشر الرأي و الرأي الاَخر.

رغم كل هذه الظروف تم المرور إلى عهدة رابعة، و فيها غير الدستور مرة أخرى، و تهاوت أسعار البترول و تحول سراب الرفاه إلى واقع الأزمة. تغيير الدستور هذه المرة الذي أريد به تدارك خطأ تاريخي الذي هو إعادة التداول على السلطة لم يأت بالمنفعة للنظام الحالي، لأن كل الصلاحيات لاتزال متمركزت في يد شخص الرئيس، هذا الرئيس الذي لا يمارس أي وظيفة دستورية و لا حتى يخاطب الشعب. النتيجة أنه سقطت صفة النظام في الدولة الجزائرية لتعطي المكان للفوضى المعممة، و أخذ الأشخاص مكان المؤسسات الدستورية و كأنهم مالكي هذه الأرض، و أصبح الشعب عبارة عن سكان لا مواطنين.

الجزائر بعد أن مرت بفترة استعمارية طويلة، نظام شمولي ذا نظرت أحادية، محاولة ديمقراطية لم يأخذ منها العبر، نظام مستبد، تعود اليوم إلى الطبيعة الأولى ،إلى اللانظام،إلى الفوضى، حكم القوي ضد الضعيف، سلطة ذوي المال على الرعية. اليوم الدولة مهددة بالزوال، و الأفراد سيعودون للمشاع.

لكن الأمل موجود، والأمل هنا يكمن في هؤلاء الجزائريين الذين يفقهون السياسية و يعرفون و يتابعون عن كثب الحملات الانتخابية، لكن عندما يتعلق الأمر بدول أخرى غربية. هؤلاء الجزائريون ينتظرون و يحلمون أن يمنحهم التاريخ فرصة لأن يصبحوا مثل هذه الشعوب و الدول. يحلمون في أن يكون لهم نظام ذا معالم واضحة تحكمه مؤسسات دستورية و يقومون هم بالتمتع بممارسة حقوقهم . غير أن التاريخ لا يمنح بل يصنع و يكتب بأيادي الفائزين. إذا الطلب موجود و العرض غائب، و العرض لا يستورد بل يصنع محليا. إذا على هؤلاء الجزائريين الغيورين على بلدهم، و الواعين بأن حالة اللانظام و الفوضى التي تعيشها الجزائر ستخرجها من التاريخ مرة أخرى، عليهم الصمود والأخذ بزمام المبادرة و المساهمة بصنع نظام سياسي يليق بالجزائر التي طالما عانت في تاريخها و حان الوقت لتصنع تاريخ يليق بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق