حوارحواراتسياسةوطني

الباحث محمد بوسعدية: فشل الإسلام السياسي أحد تجليات نجاح السلطة في مقاربة الاحتواء

حاورته: فائزة سعد لعمامري

كثيرا ما اشتعل الجدل بين مَن يعتبر الإسلام السياسي هو الحجر الذي تتعثّر فيه الدول أثناء سيرورتها نحو الحداثة والتطوّر مِن جهة، ومَن يعتبر الحداثة بضاعة غربية فاسدة مستوردة تتناقض مع خصوصية المجتمعات المسلمة مِن جهة أخرى، ثمّ أخذ النقاش منحى آخر هو ما  يُصطلح عليه بفشل الإسلام السياسي في إدارة دواليب الحكم أو فشل رواده في الوصول إلى السلطة، فصدرت في الموضوع العديد من المؤلفات والمقالات والأبحاث الأجنبية والعربية لتفسير ما وصفوه بالفشل وما يصفه البعض الآخر بالتراجع وِفق نظريات مختلفة.. وفي هذا السياق أطلق الأستاذ الباحث “محمد سعيد بوسعدية” إصداره الجديد الموسوم بـ “احتواء الإسلام السياسي مِن قِبَل السلطة” مقدّما التجربة الجزائرية كأنموذج، والكتاب عبارة عن دراسة أكاديمية وحوله جمعنا بالباحث حوار شامل.

والباحث “محمد بوسعدية” هو خريج المدرسة الوطنية للإدارة، متقاعد بعد تجربة مهنية دامت 35 عاما اشتغل فيها كمكلف بالدراسات القانونية والمالية والتعاون الخارجي.. صدرت له عدة مؤلّفات متخصصة آخرها ما صدر عام 2021 كتاب؛ الثابت والمتغيّر في الدساتير الجزائرية.

ما هي دوافع إصداركم هذا المؤلف الذي يوجه الأضواء نحو التجربة الجزائرية مع الإسلام السياسي؟

بادئ ذي بدء، يجب الإشارة إلى أنّه بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، أصبحت الجزائر قِبلة العالم، لا سيما الغرب عموما وأمريكا خصوصا، فيما يتعلّق بمحاربة الإرهاب والتطرف الديني. من هنا بدأ الحديث سياسيا وإعلاميا وحتى أكاديميا عن مصطلح “التجربة الجزائرية في محاربة الإرهاب”، وبدأت الهرولة نحو العاصمة الجزائر لإبرام اتفاقيات تعاون في هذا المجال. لكن في الحقيقة، التجربة الجزائرية لم تكن رائدة فقط أمنيا وعملياتيا واستخباراتيا وهو ما كان يهم الغرب أساسا، وإنما كانت أيضا رائدة في “احتواء الإسلام السياسي” وذلك باستعمال مقاربات سياسية ومؤسساتية ودستورية-قانونية وقضائية ودبلوماسية ودينية وإعلامية واقتصادية-اجتماعية لاحتواء واستيعاب ليس فقط “الحركات الجهادية” التي حملت السلاح ضد السلطة، ولكن كل أطياف الإسلام السياسي بمختلف روافده الإيديولوجية والحزبية.

أما فكرة الكتاب، فقد تبلورت أساسا بعد قراءتي للمرة الثانية وفي طبعته الثانية كتاب “فشل الإسلام السياسي” الذي صدر في 2015 “لأوليفيه روا” الفرنسي والمختص في الإسلام السياسي في بعده العام. لقد حاول الباحث الفرنسي في تذييل الكتاب الرد على كل الانتقادات التي طالت الطبعة الأولى الصادرة في سنة 1992. فسّر الكاتب الفرنسي فشل الإسلام السياسي إيديولوجيا لا أكثر، بمعنى أنّ الإيديولوجية الدينية غير ممكنة التطبيق مع مأزق الدولة الحديثة حتى ولو فازت الأحزاب الإسلامية بالانتخابات كما هو حاصل في تركيا.

من هنا رحت أتساءل عن الحالة الجزائرية، وإلى أي مدى يمكن تطبيق مقاربة “أوليفيه روا” حول فشل الإسلام السياسي في الوصول إلى السلطة، ووجدت أن المسألة لا تتعلق بالإيديولوجية الدينية بقدر ما تتعلق باحتواء هذه الظاهرة، ولم أجد أحسن من نظرية الاحتواء للمد الشيوعي للدبلوماسي الأمريكي “جورج كينان” لاستلهام فكرة الاحتواء وتطبيقها على الحالة الجزائرية. يبقى في اعتقادي أن فكرة الاحتواء هي الأساس في تفسير الفشل لكن هذا لا يعني أن المقاربات الأخرى غير صحيحة، ومع ذلك تبقى نسبية فيما يخص التجربة الجزائرية.

ما هي الصيغة الأكاديمية التي عرفتم بها الإسلام السياسي؟:

يصعب الوصول إلى تعريف واحد موحد لمصطلح الإسلام السياسي نظرا لتركيبته الإيديولوجية وشحنته الدينية. فتحديد ماهيته لن يلقى جوابا واحدا نظرا لشساعة مجاله وتباين استعمالاته وسعة تاريخه وكبر الجغرافيا التي يمتد فيها. أضف أنّ الإسلام السياسي لحقت به صفات عديدة متباينة مثل الإسلام السياسي الرسمي، والإسلام السياسي الحركي، والإسلام السياسي “الجهادي” والإسلام السياسي الوطني والإسلام السياسي العابر للحدود…إلخ. يتفق على العموم الأكاديميون حول تعريف مبسط يتمثل في “أنّ الإسلام السياسي هو استعمال الإيديولوجيا الدينية للوصول إلى السلطة”، طبعا مثل هذا التعريف ينطبق أيضا على أحزاب مسيحية ويهودية وبوذية.

أخذا بعين الاعتبار هذه المعطيات لظاهرة الإسلام السياسي، اجتهدنا لتقديم تعريف أكاديمي نعتقد أنه شامل جامع يتمثل فيما يلي: الإسلام السياسي هو عبارة عن إيديولوجية، يتخذ تنظيما سياسيا-دينيا، قد يشتغل بصفة قانونية أو غير قانونية داخل حدود الدولة الوطنية، وقد يمتد إلى خارجها، يستعمل خطابات سياسية دينية مُستمدة من أفكار وأدبيات وشرائع مستقاة من التراث الديني-الفقهي على العموم، والشريعة الإسلامية على الخصوص في مجال المعاملات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية والشخصية-الأسرية، الهدف منها تأسيس دولة دينية-إسلامية تمهيدا لاسترجاع الخلافة الإسلامية، كما أقامها السلف الأول.”

طبعا مثل هذا التعريف يبقى هو الأصل في اعتقادنا، لأن الكثير من الأحزاب الإسلامية سواء في الجزائر أو في العالم العربي-الإسلامي بدأت تبتعد رويدا رويدا عن الخطابات الدينية التي انطلقت منها عند نشأتها، وهو ما ذكرناه في خاتمة الكتاب.

أشرتم في الكتاب إلى “التنظيمات الجهادية” والأزمة الأمنية. انطلاقا من الدراسة، هل تغيّرت عقلية السياسي الإسلامي بعد استفادته من الدروس التاريخية؟

طبعا هنا نجيب بما هو ظاهر وليس بما هو في السرائر، ونقول نعم تغيّرت عقلية السياسي الإسلامي وهي إحدى تجليات فشل الإسلام السياسي أو لنقل هي إحدى تجليات نجاح مقاربة الاحتواء. أولاّ: أغلب “الجهاديين” وعلى رأسهم “الجيش الإسلامي للإنقاذ” قبلوا بالاحتواء القانوني، وأعني هنا قوانين الرحمة والوئام المدني والمصالحة الوطنية. ثم أنّ هناك الكثير من السياسيين الإسلاميين الذين تم احتواؤهم سياسيا، قبلوا المشاركة في تسيير الشأن العام سواء في البلديات أو الولايات أو الحكومة أو في العمل التشريعي تحت قبة البرلمان، ثم يكفي تتبع خطابات الإسلاميين في المهرجانات الانتخابية خاصة منذ بداية الألفية الثالثة، لنستنتج هذا التغير في التعاطي مع السياسة مقارنة مع خطابات بداية التسعينيات. لا نكاد نسمع حاليا من الإسلاميين من يقول عبارة “الإسلام هو الحل” كما كان شعارا مدويا في البداية، ولا نسمع من يطالب بدولة إسلامية ولا بتطبيق الشريعة. ثم لا ننسى أن دستور 1996 منع قيام أحزاب على أساس ديني، كما منع اللجوء إلى الدعاية الحزبية التي تقوم على  عنصر الدين الإسلامي. وهذا ما دفع الحزبان الإسلاميان حركة المجتمع الإسلامي “حماس” والنهضة الإسلامية إلى تغيير اسميهما وأصبحا حركة مجتمع السلم “حمس” وحركة النهضة.

تطرقتم إلى مسألة احتواء الإسلام السياسي وفق العديد من المقاربات منها الأمنية والمؤسساتية والقانونية والقضائية وغيرها… نستوقفكم عند احتواء الإسلام السياسي وفق المقاربة السياسية والإعلامية، كيف عالجتم هذا الجانب؟

طبعا كل المقاربات لها أهمية في احتواء الإسلام السياسي، لكن تبقى المقاربة السياسية هي الأساس والآلية الأولى التي لجأت إليها السلطة قصد احتواء الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة. طبعا نعتقد أنّ تشتيت الحركة الإسلامية إلى أحزاب ثلاثة كان له مفعولا مؤثرا في تأطير الإسلام السياسي في بدايته، ومن المعلوم أنّ “عباسي مدني” أعلن عند تأسيس حزب حماس تحت قيادة محفوظ نحناح “أنها ضربة خنجر في ظهر الأمة” لأن “عباسي” كان أمله أن تبقى الجبهة الإسلامية الممثل الوحيد للحركة الإسلامية، وما على باقي الفصائل إلا الانضمام إليها كما حدث مع حركة الجزأرة التي لم تلجأ إلى تأسيس حزبا مستقلا وفضلت الانضمام إلى الجبهة.

كان هم السلطة في بداية الأمر هو احتواء جبهة الإنقاذ وذلك بضربها من الداخل كما حدث في إضراب ماي وجوان 1991 والذي تحول إلى تمرد باحتلال الساحات العمومية. خروج بعض أعضاء مجلس الشورى للتنديد بقيادة الجبهة على التلفزيون العمومي كان له وقعا على مناضلي الجبهة. استطاعت السلطة أيضا فيما بعد استمالة بعض قيادات الجبهة ومشاركتها في تسيير الشأن العام كما حصل مع سعيد قشي الذي نال حقيبة العمل والتكوين المهني واحمد مراني الذي قبل منصب مستشار حكومي لدى رئيس الحكومة أحمد غزالي.

بعد الحل القضائي لجبهة الإنقاذ، استمر الاحتواء السياسي مع الإسلام السياسي المعتدل، حيث شاركت حماس في تشكيلة المجلس الوطني الانتقالي، فيما رفضت حركة النهضة الإسلامية. كذلك شارك محفوظ نحناح في الانتخابات الرئاسية لسنة 1995، فيما رفض عبد الله جاب الله. لكن الحزبان الإسلاميان شاركا في الانتخابات التشريعية والمحلية لسنة 1997، وما تلاها إلى يومنا هذا رغم تشتيت الحزبين إلى عدة أحزاب كما هو معروف. كما شاركت حمس في عدة تشكيلات حكومية وصلت أحيانا إلى سبعة حقائب لها وزنها كحقيبة الاقتصاد والتجارة. هذا باختصار شديد فيما يخص الاحتواء السياسي، أما الاحتواء الإعلامي فقد مس بداية جبهة الإنقاذ التي استفادت عند تأسيسها من تغطية إعلامية كبيرة من قبل التلفزيون العمومي وباقي القنوات الإعلامية. لكن هذه التغطية بدأت تتراجع مع أحداث جوان 1991، ومحاولة إبراز معارضي قيادة الإنقاذ إعلاميا. بعدها وبعد بروز “المنظمات الجهادية” لجأت السلطة إلى احتواء المعلومة الأمنية التي كانت تخدم إعلاميا وسياسيا هذه المنظمات. ولجأت السلطة إلى استعمال القوانين مثل قانون الإعلام وقانون محاربة الإرهاب لتحييد بعض الصحف التي كانت تنشر الأخبار الأمنية خارج إرادة السلطة.

كذلك تطرقنا في هذا المجال إلى المزايدة الدينية في المجال الإعلامي، أين نافست السلطة خطاب الإسلاميين إعلاميا، حيث لجأت إلى إنشاء إذاعة القرآن الكريم في عز حالة الحصار في جويلية 1991، واستمرت فيما بعد بإنشاء قناة القرآن الكريم المعروفة بالقناة الخامسة تحت شعار الوسطية والاعتدال. كما لهذه السياسة الإعلامية في المجال الديني أهداف أخرى تتعلق بالأمن الديني وحماية المجتمع من التيارات الدينية الدخيلة.

هناك من يقول أنّ “الإسلام السياسي لم يفشل وإنما تم إفشاله وإجهاضه” وهذا الحكم مخالف لما يردده البعض الآخر من أنّ الإسلام السياسي فشل لأن رواده لم يأتوا بمشاريع معاصرة… في الفصل العاشر من مؤلفكم تطرقتم إلى المسألة، كيف طرحتم ذلك؟

بعيدا عن التأويلات الإيديولوجية والمواقف السياسية لأقطاب الإسلام السياسي، حاولنا في دراستنا هذه معالجة أسباب الفشل أكاديميا وفق نظرية الاحتواء، كما سبق القول إلى ذلك. وفي الفصل العاشر تطرقنا إلى مختلف المقاربات التي عالجت مسألة فشل الإسلام السياسي قصد مقارنتها مع نظرية الاحتواء. وللحفاظ على موضوعية الدراسة عالجنا مقاربات من باحثين غربيين وكذا من باحثين عرب وجزائريين، بل تطرقنا إلى مقاربة السياسيين الجزائريين من أمثال عبد الرزاق مقري ونذير مصمودي اللذين تطرقا إلى الموضوع، ولو أن مقري يستعمل مصطلح تراجع الحركة الإسلامية بدل فشل الإسلام السياسي.

قام الكاتب الفرنسي “أوليفيه روا” في كتابه المشهور “فشل الإسلام السياسي”، المذكور آنفا بمعالجة الموضوع وفق رؤية نقدية لإيديولوجية الحركات الإسلامية، فيما تطرّق إلى نفس الموضوع “جيل كيبل”، الذي أصدر كتاب “جهاد: انتشار وسقوط الإسلام السياسي” وذلك وفق مقاربة أمنية، حيث يرى أنّ لجوء الحركات الإسلامية إلى العنف أفشلت الإسلام السياسي عموما وأبعدت عنهم الطبقة الوسطى في المجتمعات الإسلامية.

عربيا، عالج المسألة الباحث الفلسطيني “وائل الحلاق” في كتابه “الدولة المستحيلة” وفق رؤية مغايرة، وانطلق من أطروحة مفادها استحالة قيام “الدولة الإسلامية” كما تريد أن تجسِّدها خطابات الإسلام السياسي نظرا لمأزق الحداثة الأخلاقي والتناقض القائم بينها من جهة، والشريعة الإسلامية المبنية على البعد الأخلاقي من جهة أخرى. الدولة الوطنية الحديثة القائمة على القانون دون اعتبار للأخلاق. درس الباحث اللبناني “عادل ظاهر” الموضوع من زاوية فلسفية في كتابيه “أولية العقل؛ نقد أطروحات الإسلام السياسي” و”اللامعقول في الحركات الإسلامية المعاصرة”، واعتبر أن اعتماد حركات الإسلام السياسي على النقل بدل العقل أسقطها في اللامعقول، وهو سبب فشلهم الفكري والسياسي في قيام الدولة الإسلامية. في نفس الاتجاه، سار أيضا الباحث الأردني ياسر الزعاترة في كتابه “لماذا يفشل الإسلاميون سياسيا”، ويرجع الكاتب أسباب الفشل إلى قلة الوعي السياسي عند كوادر وقادة حركات الإسلام السياسي، وعدم التمكن من فهم موازين القوى ودقة تقدير الموقف السياسي، إلى جانب طبيعة الدولة الحديثة التي يبقى أسلمتها أمرا عصيا.

في الجزائر، ، طرح الباحث شوقي حسين في كتابه “الإيديولوجية الإسلامية في الجزائر، جذور وهياكل وبرامج حزب” إشكالية فشل جبهة الإنقاذ في أول امتحان لها أمام السلطة، وقارنها بحركة الإخوان المسلمين بمصر التي حافظت على تماسكها رغم الهزّات العديدة، وأوزع ذلك إلى التيارات الفكرية المتعددة المؤسسة لجبهة الإنقاذ وتناقضاتها العقدية والإيديولوجية. سار في دربه الدكتور “عمراني كربوسه” في كتابه “الإسلام السياسي في الجزائر” حيث تساءل عن مسؤولية الجبهة الإسلامية للإنقاذ في النهاية المأساوية التي آلت إليها التجربة الديمقراطية، ومنه فشلها للوصول إلى الحكم؟ وحاول الإجابة في نقاط عدّدها في كتابه السابق الذكر.

تطرق أيضا، رئيس حركة حمس “عبد الرزاق مقري” -وهو من بين الفاعلين السياسيين في الشأن الإسلامي- إلى موضوع فشل الإسلام السياسي بطريقة مغايرة، حيث يعترف في كتابه “الحركة الإسلامية في الجزائر” بعدم تحقيق الأهداف السياسية التي سطرتها الحركة الإسلامية بما فيها حركة حمس، وذكر العوامل التي أدّت إلى تراجع الحركة الإسلامية في الجزائر. كذلك فعل الإسلامي الحماسي نذير مصمودي في مؤلفه “بعد الرصاص، الإسلاميون والأسئلة الساخنة”، حيث تساءل: هل يصل الإسلاميون إلى السلطة في الجزائر، وعدّد أسباب الإخفاق، الكل مفصل في الفصل العاشر للكتاب.

يتحدث السياسيون الإسلاميون بثقة أن مُنافسيهم في الحلبة الانتخابية يخافون النزاهة والشفافية لأنها تنتهي بهم إلى الهزيمة، انطلاقا من الدراسة؛ هل فعلا مازال الإسلام السياسي محافظا على موقعه في الشارع الجزائري؟

أمام غياب الدراسات الاستطلاعية، يصعب التكهن والجواب على هذا السؤال. مع ذلك نحاول استقراء وقراءة الواقع منذ الألفية الثالثة.

أولا؛ الإسلام السياسي في الجزائر تمثله حاليا الأحزاب الإسلامية الإخوانية سواء المعروفة مصطلحا بالعالمية وهي حمس والأحزاب المنشقة عنها، وكذا المعروفة بالمحلية وهي حركة النهضة والحزبين المنشقين عنها، ومن المعروف أنّ الانشقاق في صفوف الحركة الإسلامية أبعد عنهم الكثير من المناضلين والكتلة الناخبة، وتشتيت أصواتهم.

ثانيا؛ مشاركة الإسلاميين في العمل التشريعي والحكومي أفقدت للإسلام السياسي الكثير من المتعاطفين مع الحركة الإسلامية عموما، وهو ما ذهب إليه عبد الرزاق مقري في كتابه المعنون الحركة الإسلامية في الجزائر.

ثالثا؛ دفعت المأساة الأمنية ومخلفاتها الكثير من المناضلين الإسلاميين للتحول إلى السلفية العلمية والابتعاد عن الإسلام السياسي الحركي، وتكفير العمل الحزبي عموما. وقد لاحظ الباحث الفرنسي “أليفيه روا” هذه الظاهرة في كل البلاد الإسلامية وسماها بالأصولية الجديدة، وقد جسدها عندنا في الجزائر التيار المدخلي على الخصوص.

رابعا؛ الرجوع إلى الإسلام الشعبي-الطرقي خاصة في المناطق الداخلية وذلك بتدعيم من السلطة؛

خامسا؛ نلاحظ نفور شعبي من الأحزاب عموما ومنها الإسلامية، وهذا ما لاحظناه أثناء الحراك الشعبي، ولكن أيضا من خلال بروز القوائم الحرة بقوة في الانتخابات التشريعية والمحلية الأخيرة.

بعيدا عن الجزائر ولكن في ذات السياق، ألا تُعتَبَر التجربة التركية بَعثاً جديدا للإسلام السياسي؟

يجب التذكير أن الدولة التركية هي وريثة الخلافة العثمانية التي حكمت جزء كبير من العالم الإسلامي وخاصة العربي لعدة قرون، وكان قانونها الأساسي هو الشريعة الإسلامية، إذن نحن أمام إرث ديني تاريخي كبير. كما يجب التنويه أنّ العلمانية في تركيا لم تكن نتيجة لتراكم فكري فلسفي كما حدث في أوروبا، وإنما جاءت كرد فعل سياسي -من قبل نخبة تركية قومية-علمانية- عن ما أصاب الدولة العثمانية من انحطاط  وتشتت وانهيار. ولذلك جاءت العلمانية التركية متطرفة مع دين أغلبية الشعب التركي أي الإسلام. ونتيجة هذا التطرف العلماني ظهر التيار السياسي الإسلامي أيضا كرد فعل لحفظ ماء الوجه في بداية الأمر. وقد جسد هذا التيار جماعة “اسكندر باشا” التي خرج من كنفها “نجم الدين أربكان” و”تورغوت أوزال” ومن بعد “رجب طيب أوردوغان” الرئيس الحالي لتركيا. ومن ميزة التيار الديني التركي -وهو ما لا نجده عند الإسلام السياسي العربي- تبنيه للنهج النقشبندي أو النوري أو القادري الصوفي إلى جانب الاعتزاز بالقومية التركية وتفضيلها على باقي المكونات للمجتمع التركي.

وعلى غرار البلدان العربية، سعت السلطة التركية إلى تدعيم التيارات الدينية لمجابهة المد الشيوعي داخليا وخارجيا، خاصة وأن تركيا عضوا في الناتو، وهذا ما أتاح للتيار الديني التنفس نوعا ما رغم الخطوط الحمراء التي أرستها السلطة التركية فيما يخص العلمانية وقوانينها المدنية. سمح هذا المسار التاريخي للحركة الإسلامية في تركيا لحزب العدالة والتنمية الوصول إلى الحكم عام 2002، ويرى الباحث التركي عبد الله مناز في كتابه “الإسلام السياسي في تركيا” أن حزب العدالة والتنمية تأسس على يد شخصيات تحمل فكر “الرؤية القومية”، ولكن قوبلت هذه الشخصيات كطيب رجب أردوغان و”عبد الله غل” بعين الشبهة، كونها انفصلت عن لواء القائد التقليدي الأساسي لفكر الإسلام السياسي في تركيا ونعني به “نجم الدين أربكان”. يواصل الباحث ويقول أن حزب العدالة والتنمية يصنف ضمن التيار المحافظ أكثر من كونه يحمل أفكار الإسلام السياسي التقليدي القائم على تطبيق النظم الشرعية في جوانب الدولة، وحزب يميل إلى الحداثة والأفكار المرنة البعيدة عن التعصب الديني. كما نشير أن أردوغان حافظ على علمانية الدولة والقوانين المدنية فيما يخص الأحوال الشخصية وهي خطوط حمراء في تركيا.

ومع ذلك، يبقى حزب العدالة والتنمية في تركيا محسوبا سياسيا وإعلاميا وحتى أكاديميا على الإسلام السياسي، وهو محسوب أكثر على التيار الإخواني العالمي ويلقى التعاطف السياسي المعنوي من قبل كل الأحزاب الإسلامية العربية المحسوبة على التيار الإخواني بما فيها الجزائرية . لكن السؤال المطروح هو هل تقبل الأحزاب الإسلامية العربية بالبرنامج العلماني لحزب العدالة والتنمية الذي يبقى همه المسائل الاقتصادية والاجتماعية لكسب أصوات الناخبين بدل الخطابات الدينية الطوباوية. أعتقد شخصيا أن الانتماء الملائم لحزب العدالة والتنمية هو “الإسلام السياسي العلماني”، وهو مصطلح غير متداول إعلاميا بقوة رغم بعض الإشارات الأكاديمية للمسألة.

هل لديكم إضافة أخيرة بشأن كتابكم “احتواء الإسلام السياسي” التجربة الجزائرية؟

فقط أشير إلى أن هذا العمل تطلب مني بحثا دقيقا دام ثلاث سنوات وذلك في النصوص الدستورية والتشريعية والتنظيمية بما فيها القرارات الوزارية المنشورة بالجريدة الرسمية والتي لها علاقة مباشرة بالموضوع والتي فاقت المائة نص. كما تمّ الاعتماد خلال هذه الدراسة على مذكرات وأعمال الفاعلين السياسيين سواء من قريب أو من بعيد منهم اللواء خالد نزار في مذكراته، وعلي هارون في كتابيه، وعبد السلام بلعيد في مذكراته، والوالي بشير فريك في كتابيه، ومحفوظ نحناح في كتابه، وعبد الرزاق مقري في مجموعة من كتبه. كما تم قراءة وفحص أكثر من خمسين مرجعا وعدة مقالات صحفية وأكاديمية فحصا كاملا ووافيا نظرا لارتباطها بموضوع الاحتواء وفشل الإسلام السياسي.

مقالات ذات صلة

إغلاق