آراء وتحاليل

وفاق دستوري ومؤسساتي من أجل التغيير الديمقراطي

علي بوشركة ومهدي بسيكري

سمحت الثورة الشعبية بانبثاق جملة من المقترحات التي طرحت من طرف مختلف الفاعلين المستقلين و جزء من الطبقة السياسية و جملة من هـياكل المجتمع المدني. هذه المقترحات وإن وُجدت بينها نقاط توافق عديدة، سواء بطريقة عفوية أو بعد بذل كل طرف لمجهود في سبيل تحقيق ذلك، فهي تؤدي على ما يبدو إلى انسداد سياسي يفرض نفسه يوما بعد يوم، من بين أسبابه رؤيتان متباينتان حول مصير المسار الثوري.

إحدى هاتين الرؤيتين تدافع عن خيار إجراء انتخابات رئاسية في أقرب وقت، أما الأخرى فتدافع عن انتخاب مجلس تأسيسي يتمخض بعد فترة انتقالية، في حين يختفي تدريجيا من النقاش مقترح إجراء انتخابات رئاسية بعد فترة انتقالية.

كثيرون يعتقدون أنه لا ينبغي بأي حال من الأحوال القبول بإجراء انتخابات رئاسية في إطار الدستور الحالي الذي يمنح لرئيس الجمهورية صلاحيات تسلطية، والتي تجعل منه فريسة سهلة لسيطرة النظام على منصبه، لكن هناك آخرين يرفضون رفضا قاطعا فكرة المجلس التأسيسي معتبرين إياه مرادفا لمغامرة محفوفة المخاطر ومجهولة النتائج.

اليوم، وفي الشهر الخامس من الثورة الشعبية المندلعة سلميا بتاريخ 22 فيفري 2019، يمكننا الجزم بأنه قد حان الوقت لتوحيد مختلف الكتل التي اقترحت حلولا، راجين تحقيق التوافق بهدف تخطي العراقيل.

و للتوضيح، هذا النص لا يتوجه للسيستام. المعنيون بالمضمون هم كل من اقتنع بحتمية التغيير الجذري للنظام في سبيل تحقيق دولة مدنية لتكريس دولة القانون.

من الواضح أن جمود الوضع الراهن يشكل نعمة للنظام، كونه يتيح له إمكانية المماطلة حتى يتسنى له إعادة الانتشار ومحاولة فرض إستراتيجية ملزمة، بهدف دفع المواطنين إلى تبني وضع دفاعي. وعليه، فإن عنصر المفاجأة لزلزال 22 فيفري أصبح مهددا بخطر الامتصاص، خاصة وأن حالة الترقب والتوجس السائدة يمكنها أن تغذي الإحباط وسط أفراد المجتمع، وأن تضخم الإحساس بالتيه، في ظل غياب ديناميكية سياسية، من المفترض أن تكون امتدادا للضغط الشعبي.

المرحلة الانتقالية بدأت فعليا بتاريخ 09 جويلية، دون أن يعترف بها النظام. في المقابل، واضح أنها للأسف لا تحمل الطابع الديمقراطي، وأصدق شاهد عن ذلك الممارسات التعسفية الحالية والإصرار على إبقاء وجوه النظام في مناصبهم.

كل الأوراق وظفت دون جدوى، بعضها بهدف التفرقة، وبعضها الآخر من أجل الترهيب وحتى الإغراء، ويمكن تفسير فشل كل هذه المحاولات بإصرار وثبات المتظاهرين الحاملين لشعارات مختلفة، والذين أثبتوا تشبثهم بمطالب القطيعة مع النظام .

ومع اعتبار أن أي مسار ثوري مقدر له أن يدوم في الزمن، وجب عدم الاستهانة بقدرة النظام على التجدد والتحول باستعمال أوجه غير معروفة تحمل نفس الجينات التي يتوارثها منذ 1962.

من الاستقطاب إلى التوافق-

بعد سيل من الاقتراحات و خرائط الطريق التي طرحت على ساحة النقاش، كان من الطبيعي أن يصطف مختلف الفاعلين خلف المعسكر الذي يستجيب إلى تطلعاته، لكن في الواقع، لا يجب و ليس بالإمكان لهذا الاستقطاب أن يستمر. نحن اليوم أمام حتمية مباشرة مرحلة تقريب وجهات النظر، من أجل الخروج بوفاق يسمح لنا بتفكيك حجج النظام قبل كل تفاوض، وإجباره على الإقرار رسميا وبكل شفافية بمسار تغيير النظام.

و للتوضيح فإن التفاوض مع النظام ليس بمثابة حوار أفقي، بمعنى تفرض السلطة ما تشاء. و التفاوض هدفه الرحيل السلمي لكل النظام و كيفيته و رزنامته.

الوفاق بين كل من يؤمن بالقطيعة الجذرية ليس مرادفا للتنازل ولا للتنكر للقناعات، ويبدو ضروريا أننا بحاجة لضمانات تبث الثقة بخصوص نجاح العقد السياسي والاجتماعي الجديد، وذلك من أجل توحيد الجهود وربح الوقت في سبيل التغييرالجذري و السلس، قطيعة تضمن تكريس استقلالية القضاء وكل قوى المضادة، إضافة إلى الفصل بين السلطات واحترام الشرعية الشعبية.

من هنا، يكون الحوار بين مختلف الأقطاب المستقلة عن النظام ضروريا من أجل توفير كل عوامل النجاح لعملية التغيير الشامل، وعند هذا المستوى، لا ينبغي أن يُمنح أي تنازل إذا لم تُأخذ البديهيات الديمقراطية بعين الاعتبار. بديهيات تشمل إطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي الذين أعتـقلوا ظلما، إضافة إلى وقف القمع والتخويف و التهديد و التخوين، احترام حرية تنقل المتظاهرين وكذا تحرير الفضاء العام و وسائل الإعلام لضمان حرية التعبير والتجمع. أما عن مطلب رحيل كل رموز النظام واحترام بديهيات الديمقراطية، فهي شروط ينبغي أن يتبناها كل طرف يحترم تطلعات الحراك الشعبي.

تغيير دستوري ومؤسسات-

إن الوفاق الذي يمكن أن يحقق الإجماع في المجتمع بين المدافعين عن خيار الانتخابات الرئاسية والمدافعين عن المجلس التأسيسي، يمكن أن تُجَسّد من خلال مراجعة دستورية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية. فما إن تصطف مختلف الديناميكيات حول هذا الاتفاق، سيتسنى لها أن تضمن نقاشا حرا حول خلق الآليات الملائمة لإنجاح هذه الورشة الإصلاحية.

بترجيح جدول زمني حكيم يحترم عوامل الشرعية، فإن الوجهة المختارة تشمل تعديل مواد الدستور التي تمنح للرئيس صلاحيات واسعة وتفوضه سلطةً استبدادية. في نفس السياق، يجب أن تتضمن المراجعة الدستورية والمؤسساتية إلغاء القوانين القمعية وحذف النصوص التي تقيد ممارسة الحقوق والحريات بالإضافة إلى دراسة كل ما هو متعلق بالتوازن بين السلطات.

إن الحراك الشعبي هو المحرك الحقيقي للثورة الشعبية و يجب مساندته بكل قوة لكي يدوم و يستمر.

ومراجعة الدستور من أجل تغيير دستوري ومؤسساتي ليست خيالا مستحيلا، إنها خط وسط ونقطة توافق بين الجميع، أما التشتت فلا يسمح قطعا بالتفاوض في ظروف مريحة من أجل رحيل النظام سلميا. في مواجهة الشمولية علينا أن نتسلح بالقوة ونحصن الصفوف، فالمسؤولية هنا تاريخية محضة.

على الجميع العمل من أجل التوافق. عكس ذلك تبرز الحجة.

مقالات ذات صلة

إغلاق