آراء وتحاليلثقافات

سقوط آخر قلاع الحرمة والنيف في بلاد مزغنة

سقوط آخر قلاع الحرمة والنيف في بلاد مزغنة

هي بالطبع ليست صور لمشاهد دمار خلفتها حرب شاملة كالتي تعرفها بعض الدول في القرن الواحد والعشرين وامثلة حزينة من اليمن وسوريا والعراق وليبيا تفي بالكثير من الغرض لتقف عند حجم الكارثة عند فقدان الانسانية لكل حجرة بناها الانسان في عصور مضت فكانت احد شواهد الحضارة.
نعود الى اصل الصور، هي مشاهد مؤسفة من انهيار ما تبقى من قصبة الجزائر احد الشواهد الحضارية لمرور الانسان المزغني من هنا، فقصبة الجزائر التي بنيت منذ أكثر من 2000 سنة على الأطلال الرومانية أكزيوم شيدها الأمير بولوغين بن زيري بن مناد الصنهاجي على عكس ما تم الترويج له انها تعود لفترة التواجد العثماني في الجزائر ولو انهم عملوا على استغلالها فتحولت الى دار السلطان كما تم تشييد العديد من القصور على النمط العثماني لتشهد بذلك مرحلة اخرى.
كان فقط هذا مرور على تاريخ بناء القصبة التي لن تفيها اي اسطر حقها فالعديد من الكتب وصفحات الانترنيت تعج بمعلومات عن هذا اقدم احياء المحروسة او الحصن المنيع للبهجة مدينة وتراثا ماديا ولاماديا ولطالما واجهت القصبة لوحدها رياح التغيير المختلفة التي كانت تعرفها العاصمة فابقت على اصالتها التي صنعها ابناؤها بين ازقتها او “زنيقاتها” كما يحلو “لولاد القصبة” تسميتها.
كدت انسى غرض كتابة هذا المقال! فالكتابة عن عبق هذا الحي وعراقته وخصوصيته يجعلك تغرق في تفاصيل كثيرة ومهمة. اه، صبيحة اليوم وفي حوالي العاشرة والنصف صباحا، يقطع دوي سقوط جدران احد عمارات القصبة العتيقة صمت الحي، فاليوم يوم جمعة، ولو ان كل الايام اضحت متشابهة منذ ما يقارب ثلاثة اشهر مع الحجر الصحي الذي تعيشه الجزائر المفروض مع اجتياح وباء كورونا للبهجة وكل المدن الجزائرية.
ينزل سكان القصبة بسرعة نحو المكان الذي وقع فيه الانهيار قبل وصول رجال الحماية المدنية، للوقوف والتحسر على حيهم العتيق، فهم ورغم كل الاخطار المحدقة بهم لم يبرحوها ولم يغادروها..حتى ان العديد من المسؤولين الذين تداولوا على الإدارة المحلية للقصبة طالما تحججوا بهذا السبب في عدم القدرة على ترميم هذا الحي.
صمت الجمعة الصباحي قطعته تهاوي آخر حجارة حي من احياء هذه التحفة التراثية التي الهمت كبار الادباء والفنانين التشكيليين والموسيقيين على مرور الازمنة. يوم جمعة اسود آخر سيكتب صفحة اخرى من صفحات اللامبالاة والاختلاس والاحتيال فيما يخص ملف ترميم ذاكرة القصبة القديمة الفوقانية والتحتانية، اموال ضخمة صرفتها اليونسكو لصالح جمعيات تعمل في المكان لا نعرف لها اي مصير، ودولة عجزت على حفظ هذا التراث منذ الاستقلال…عجب!
القصبة التي تبقى شاهدة على احد المعارك الضارية ضد العدو الفرنسي ليؤرخها فيلم “معركة الجزائر” العظيم ويبقى درسا يدرس في اكبر الثكنات العسكرية في العالم، لم يستطع ابناء جويلية الحفاظ عليها فكيف ستكون مواجهتهم مع “ابناء نوفمبر”.
الجمعة التي ارادها الجزائريون رمزا لانطلاق ثورتهم الجديدة ضد نظام متهالك منذ 22 فيفري 2019، ستذكرنا ايضا بعدم قدرتنا على الحفاظ على جزء من ذاكرتنا التي صنعت امجاد المحروسة. هو ليس بكاء على الاطلال بقدر ما هو شعور بالعجز والاسى ازاء ما يحدث ففي بلادي لو حدث العكس لكانت المعجزة وكأنها حرب ضد الذاكرة الجماعية الجزائريين عامة ولناس “دزاير” خصوصا.
يوم الجمعة مخرجتش لريام فلم يعد ما يجذبهن من سحر هذه المدينة، لم يخرج الاطفال للعب بين ازقتها الضيقة وجدرانها المتقابلة، لم نصادف شبابا صاعدين او نازلين لاحد جوامع الحي وعلى سواعدهم سجادات، لم نشتم رائحة الرشتة بالمرقة البيطا وعبق اللفت والدجاج يسبقك الى الأنف وقليل من القرفة، لم تلتفت يمينا او شمالا او ترفع راسك لشم ريحة السردين المدوزن بباقة من التوابل والاعشاب العطرية بالنعناع والحشيش والدرسة التي لا يعرف سرها الا سكان هذا الحي العتيق..اما القهوة فيسرتشفها سكان القصبة اليوم مرة دون ماء الزهر ولا ياسمينة على الطرف، يبكون مرارة الوضع الذي الت إليها معشوقتهم القصبة.
جاء هذا الانهيار ليذكرنا بانهيار لكل القيم الاخلاقية والاجتماعية والانسانيه في التسابق للحفاظ على هذا الارث ولكن ماذا فعلنا؟ لا شيء، نعم لا شيء يذكر سوى العدم الذي سيبقى يذكرنا بالفشل في الحفاظ على تاريخنا بل وتشويهه فالعديد من الدويرات التي اذهلت كبار المهندسين المعماريين اضحت دون عنوان ببنايات قصديرية فوق السطوح هروبا من ضيقها وتزايد سكانها وجشع من نوع آخر حيث تعمد بعض العائلات لكراء غرف الدويرات للوافدين الى العاصمة من مختلف الولايات وهكذا..
صورة سريالية لواقع يؤلم شيوخ الشعبي الذين لم يتبق منهم الكثير وسيدات القاع والباع والخلخال مربع ..والشباب “الهوزية” بمعناه الايجابي في الدفاع على آخر قلاع المحروسة.
لن اتساءل ككل مرة من هو المسؤول، واين ذهبت الاموال وكم من دويرة بقيت وماهو الحل وغيرها من الاسئلة المطروحة منذ ازيد من خمس عقود كاملة ولكن ستكون وقفة عند سقوط آخر جدران النيف والحرمة للدفاع عن شرف الذاكرة.

بقلم: طاوس اكيلال

مقالات ذات صلة

إغلاق