الأرشيفثقافات

عرس في الأوراس..الرحابة والراقاصات وخيال طفل!

حفلات الأعراس في القرية في نهاية التسعينات كانت صاخبة، بعد العشاء يكون القصاب الحاج زريبة يمسح شاربه الطويل بعد أن تعثر في صحن بربوشة بلحم الخروف، صحن كبير يعيد الحياة في الميت، يمازح بوبكر البرّاح (الليلة كحلة يا بوربّ) وهو يقصد أن الحضور متعجلون في الأكل بما يوحي أنهم متحمسون للحفل، وآخرهم ذلكَ المصيبة الذي يلقبُ بالرجل الصغير، وهو شخصٌ كان يجمع المسامير لسفينة نوح، غير أنه بقي هزيلاً وبنفس الملامح وعينيه فقط يزدادان ضيقاً وتصور أن يشاهد حدّة وهيّ تجوب الساحة على ايقاع أغنية لسود مقروني، لن نستبقَ الأحداث، فهو شخص يغص بالمفاجئات، وذات يوم عندماَ كان الزغبُ ينموا في منخاريه، شاهد الشباب يضعون النقود في نهد الراقصة، وقام بطي ورقة جريدة وناداها، وأتته يا بن عمي وكأنها شاهدت أبوابَ الجنّة تفتح، وضع البغل يده المرتجفة، فشعر بحرارة جسده ترتفع ودفعَ يده أكثر فأصابه البكم من نعومة تلكَ الأراضي السخية، فأمسك ثديها وصرخَ عاليا ثم عضّ لسانه، ولم يخلصوهاَ من هذا الوغد إلاّ وقد كسرت على ظهره عدّة أغصان بلوط.
بوبكر طويلٌ وظهره مقوس، ورقبته رفيعة، تصورهُ يضعُ العمامة المطوية بعناية، ويحركُ رأسه يميناً وشمالاً وحركة عينيه تزداد حتى تحسبَ أن بؤبؤه غير مستقر كالبشر، حاجباه مرتفعين دوماً بما يوحي لكَ أنه مركز، أجل أقسم لكَ أنه يخرج النقودَ من جيوب المهظومين المعتدلين كطلبة المدارس النائية، الحقاص وسعيد الجريدي يكونان الآن خلفَ طاولة الزيراوي يلطفان جنجرتيهما بدهان الماعز الذي مخضت لالة متروجة الشّكوة حتى انهدت كتفيها في ظهيرات أوسوّ، لا شكّ أنها ستفتخر كثيرا بالزيراوي الذي فتلته في عرس ابنها مازوز، النساء هنا يفتخرن حين يعجب الرجال بالزيراوي في الأعراس، والزيراوي ليس طائرة هيلوكبتر كما يخيل إلى بعضكم، إنه أكلة بسيطة يستخدم فيها فتاة الرغيف والغرس ودهان الماعز، غير أن المقادير تغيب على بعضهن فيغرقنه بالدهان ويصبح مذاقه منفر، وأعراس الشّاوية لا تقام دون زيراوي، ومن هي اليد التي تمتد لفتله …؟
أما سي لوراسي الهزيل الذي سقطت كتفاه تحت الحزام، وأصبحت ذراعاه الطويلتين تصلان حتى الينابيع، لقد خلقت يداك للبندير فقط، حتى وأنت تأكل معهم الزيراوي تبدو غريبة عليك، أو قادم من الأرياف إلى مدينة ساحقة كباريس، ومع ذلكَ أشاهده يد تضع الشمة والأخرى تسخن البندير على نار خفيفة، والمخلوق يروي لكَ نفسَ القصة مرات عديدة وفي أوقات متقاربة، وقد سمعت بوبكر يمازحه : الناس تجيب الدراهم وأنت امضغ اللجام …
الحاج زريبة بقامة معتدلة وشارب أسود لم يطله الشيب ووجنتين حمراوين من كثرة الديفان الذي يشربه كما يشاع في الأعراس وعينيه حادّتين وكلامه مسموع من فرقته، أعتقد أنه الوحيد الذي صدّقَ أنه فنّان أما البقية فيميزهم اللباس التقليدي فقط، الفنّان في نظري يجبُ أن يكونَ ملاكّا، ينزل من السماء ليدخلَ البهجة في المثقوبة قواربهم، لالا هذا سابقاً في الأساطير، وفيروز و أم كلثوم والعندليب، هنا الجبال حيثُ يجب أن تكون خشنا حتى وأنت تغني، بما يعني أنك تغني وفي نفس الوقت يجب أن ترعبَ من يسمعك..
يلمح الحاج زريبة لفرقته بالبداية، ويدخل يده تحت الثياب البيضاء، يخرج القصبة، ويميل عليها بشاربيه، متخذاً خطوات بطيئة نحو الساحة، يلحقُ به لوراسي بالبندير، ويصرخ الحقاص والجريدي (بسم الله والحمد لله يابحر العلماء…الخ) ويطلق المعتدلون كطلبة المناطق النائية، صافراتهم وصيحات هياجهم، وماهيّ إلاّ لحظات قصيرة حتى تتسلل الراقصات مضبوطاتٍ كعقارب السّاعة، يزداد هياج الشباب، غير أن بوبكر وهو يدور حول الساحة لم يقتنص ولا عشرالاف، الجميع مبهورون بالراقصات المشتعلات اللواتي يوقضنَ الحشيش في عز قصب الحصائد، لاتذهب بعيداً، فإني أشاهده أجل هو ..البغل …إنهم يخلون له الطريق ليمر إلى وسط الساحة، رغم ضحالته إلاّ أنه تشربَ سياسة الحفلات ويعرفُ من أينَ يبدأ، رغم هفوات الماضي، وذلك النهد الذي جعل العصي تنكسر على ظهره، لكن لا أعرف كيف أعبر عن مداهمته للساحة، فقط تخيله جراراً أو شاحنة سوناكوم مزمجرة وما إن تصل تحتك عجلاتها بالحصى وتصدر جلبة تجعل الحمار يتعرق دون أن يصعد مرتفعا بالأثقال، آرجااا يصرخ بوبكر كمن أفلح كمينه في امساك أرنب، ويكون قد مر عليه موسم دون أكل الشواء، يخرج عشرينالف من جيبه ويتظاهر أن الجيب يحتوي على آلاف العشرينات تلكَ الورقة الحمراء التي تشبه رسالة جندي ينزف إلى حبيبته، يصرخ بوبكر من جديد: هذي عشرين مطبوعة من جيهتين ما تكفر ماتسب الدين / قالك يبداها زعيم ولا كريم ولا ولاد السيكتور لقديم، من عند سي عبذ الصمد لي مايكرهو حد، قالك والله ماننساك ماطالت ليام يبقى اللوم عليك لو انسيتيني اسمك في يدي وشمتو توشام وخيالك موحال يغيب عليا… لقصيدة يالحاج قالك عياش عياش أممي …وصوته يختلط بصفير المكبر..
عيّاش أغنية رثاء قديمة لا أحد يبقى مستقيما حين ترفع لو أن الأوراس دولة مستقلة لاختار أبناؤها هذه الأغنية نشيدا وطنية، تتهادى القصبة حزينة، حتى تشعر بالجداول التي لم يطلها الماء من قبل، وقد امتلأت على كل جانب، وتعر بالعصافير التي لم تزقزق يوماً وهي تسكب أهازيجها على المدى كما تنقذف القهوة من كأس المصدوم بخبر حزين، وتشعر بالنساء الجميلات اللواتي لم يولدن بعد وهن يتراقصن أمامك ويغمزنك عسى أن تبتسم لإحداهن وأنت مكابر كصخرة تنتظر طاليس ليعيدها إلى القمة…
وتشعر بالحروب التي لم تقم، وقد اشتد الرصاص ولم تجد أين تدوس بقدمك من الجثث ..
وتشعر باللعنات والخيانات والنحيب والعمال المأجورون وغير المأجورين والنساء الحوامل وغير الحوامل والجنود في الثكنات وفي الجبال والماعز والظأن والدجاجات يحركن رؤوسهن قربَ كوخ في العدم بحثاً عن حبة قمح هاربة من مجلدات التاري…
تلمع الدموع في أعين عبذ الصمد وهو يهم بالمشي خببا كمن تقطعت به السبل وتلمع البندقية في يده وقد وضع حزام الخراطيش على كتفه الأيمن وشمر عباءته وقربَ بيتِ العريس أو طائر جنّة الليلة مكان معتم تشتد فيه الزغاريد، يسمى المحفل، ثم يطلقُ سي عبذ الصمد أول البارود، حتى ترتعد الجدران، وتسقط ندف البارود بيضاء محجلة على الساهرين، والزغاريد لاتنقطع، لا تنقطع.. وتعتليهن زغاريد الصبايا، زغاريد ليست محترفة تشبه صرخة عصفور، في الأعراس تنطقُ الصبايا لتهز العجائز أثوابهن مخرجات كساحر محترف عريساً لهن يتصارعن لأجله…
يدور سي عبذ الصمد سبع مرات على الساحة وكل دورة بعشرينالف وطلقتي بارود مركزتين، وبعدها ينسحب دون صخب، تاركاً الجميع مذهولين، تاركاً الساحة لليامنة وحدة لتتحركا كفراشتين لطيفتين، تاركاً السّاحة للشبان المقهورين الذين يلتمسون حريتهم في التبراح ورشق الراقصان بالنقود التي يحلبونها من صلب الحياة، هنا في هذه الأمكنة الغريبة، ينتشل الناس رغيفهم بالأظافر، تماماً كما ينتشلون فرحهم..
وبعد صراعٍ طاحن في التبراح والأغاني التي تهيج الراقصتين، وبعد ان وقفَ الحاج زريبة كدرويش ليدور رفقتهن بالقصبة وسي لوراسي الذي يضيع خطوة الرقص يقفز خلفه كارنبٍ قادم من القمم ليذوقَ بنّة الجزر..يصرخ بوبكر وبوبكر يصرخ أجل، حين اقول أنه يصرخ فحنجرته تتقطع حين يفعل ذلك، أرجا لينتفي كل شيء ويسود الصمت، يهدأ الجميع، وهذه المرة يخبرهم أنه موعد الحنّة، تخرج أم العروس أو لالاهم في هذه الليلة المباركة التي أصبح العاثر فيها أكثر من الواقف على قدميه مصحوبة ببعض الصبايا وبعض الموشمات اللوتي يغنين طبعاً آخر غير الذي يقوم به الجريدي والحقاص إنها أغاني رقيقة تشبه الماء الذي يسكب على الجذوات، تضع الصبايا السينيات العامرات بالكعك والحلوى والحناء والشموع والعطر تقوم والدة العريس بوضع الحناء في يده وأيدي أصدقائه ولا تنس تهاطل العشرينلفات تهاطل الأمطار في ديسمبر يعدن كما تعود القوافل العامرة، وأنا كنت صغيراً في ذلك العرس ولم أفهم مايدور جيداً، وقفت بقرب المكان المعتم، وقفت واختطفتني احداهن وقبلتني وضمتني إليها حتى شعرت برغبة في التبول، لم أكن أعرف مالذي يحصل، أول مافعلته أني صرخت في وجهها ، حاولت معرفة مايحصل، لكن دون جدوى، تخلصت منها وهربت من العرس، لكني بعد سنوات، تمنيت أني تعرفت على وجهها، أو فعلتُ على الأقل مافعله التهامي عنما زارهم وفد ألماني في الورشة التي يعمل بها في الغابة، وكان أصغر العمال وأقصرهم قامة، وحسبته الألمانية الشقراء الشقراء كحقول مايو طفلا صغير مدت إليه يديها واحتظنته غير أن البغل تشبث بنهديها هو الآخر، تصورو معي الألمانية تشتمه.

بقلم جلال حيدر

مقالات ذات صلة

إغلاق