ثقافاتوطني

صدوق أوفلا…قرية صغيرة بإرث ثقيل

 

صدوق أوفلا… هذه القرية الصغيرة المتشبثة بسفح الجبل، تنطوي على إرث ثمين هو نتاج زواج بين التاريخ والروحانية: إرث الشيخ أحداد، شيخ الزاوية الرحمانية الذي أعلن ذات 08 أفريل 1871 في سوق مسيسنة الجهاد قائلا وهو يلقي بعصاه أمام جموع المريدين: سنلقي بالغزاة في البحر كما ألقيت عصاي هذه!     

إحالات الأسماء

ترجع أصول عائلة الشيخ محند أمزيان أحداد، أو الحداد، أو بلحداد إلى منطقة آث منصور، ولاية بجاية. وقد هاجرت فروع من هذه العائلة إلى قرى مختلفة من بلاد القبائل، واستقر فرع منها في قرية صدوق أوفلا، ومارس أجداده الحدادة فنسبوا إلى هذه المهنة.

ولكن والد الشيخ كانت له اهتمامات بالتدين والتعلم منذ صغره فأسس، كبيرا، مدرسة صغيرة في القرية يعلم فيها صبيانها. وقد ورث عنه ابنه محند أمزيان هذا الشغف فشب تقيا ورعا محبا للعلم. وبعد أن تشرب مبادئ العلم الشرعي من مدرسة والده، شد الرحال إلى زاوية من زوايا الرحمانية في جرجرة يرأسها خليفة الشيخ محمد بن عبد الرحمن مؤسس الطريقة.

وكان الشيخ محمد بن عبد الرحمن، المشهور ببوقبرين، قد وضع، في القرن الثامن عشر، أسس الطريقة في زاويته بقرية آيت اسماعيل بجبال جرجرة، التي اشتهرت باسم “الطريقة الرحمانية”. وقد أخذ الشيخ محند أمزيان العلوم ومبادئ وأوراد الطريقة عن شيخه الذي اكتشف نبوغه وذكاءه، فأعطى له الميثاق وأذن له في إعطاء الورد لغيره ورقاه إلى رتبة مقدم.

عاد محند أمزيان إلى قريته وأسس فيها زاوية، أخذ ينشر فيها العلوم الدينية الصوفية، فكثر مريدوه وطلبته وأتباعه. و عظم شأنها والتف حولها الإخوان الرحمانيون، خاصة بعد أن خرب الفرنسيون الزاوية الأم في جرجرة بعد أن غزوها في خمسينيات القرن التاسع عشر. 

وهكذا تحولت زاوية صدوق إلى قبلة تجمع شتات الإخوان، وتحول شيخها الحداد إلى زعيمهم الروحي الذي امتد تأثيره إلى المنطقة الواسعة من حوض الصومام إلى جرجرة والبابور والحضنة…

 

النفاق الأكبر !

ليس لهذه الكلمة علاقة بما يدور في رأسك أيها القارئ !…

كلمة “النّْفاقْ Nnfaq” كلمة شعبية تدل عموما على التمرد أو الثورة، وتدل خصوصا على ثورة 1871 التي أشعلها الباشاغا المقراني ونفخ فيها الشيخ الحداد وحاول بومزراق، أخ المقراني، يائسا، الإبقاء على جذوتها مشتعلة ! فعرفت في كتب التاريخ بثورة المقراني والحداد.

ينتمي الباشاغا المقراني إلى طائفة “الأجواد” وكان يملك قوة من الفرسان يستمدها من القبائل الخاضعة له وقبائل المخزن التابعة له، وكان لابد له من دفع روحي حماسي من مؤسسة روحية مثل مؤسسة الحداد.

فبعد أن أعلن المقراني الثورة في مارس 1871 من عاصمته “مجانة” عرف أن ثورته ستحتاج إلى قوة إضافية، فراسل العائلات الأرستقراطية في نطاقه الجغرافي، كما راسل زاويتي صدوق وشلاطة.

كان الشيخ محند أمزيان الحداد في ذلك الوقت شيخا طاعنا في السن، يلازم خلوته، ولا يغادرها إلا ليمنح المشورة الدنيوية والدينية لمريديه وزائريه. ويقال إنه كان رجلا يميل إلى المسالمة رغبة منه في الحفاظ على روحانية زاويته واستمرارها، وأن ابنيه محمد وسي عزيز كان لهما الحسم في قرار الثورة، وخاصة سي عزيز الذي كانت له ميول ورغبات سياسية…

جمع الشيخ أحداد مقدميه وشاورهم، ثم خرج إلى الناس يوم 08 أفريل ليعلن الجهاد على المحتل الفرنسي. وكان هذا الإعلان تحولا مفصليا في هذه الثورة، فاشتد لهيبها بانضمام الطبقات الشعبية التي التفت حول زعيمها الروحي، فامتدت الثورة لتشمل معظم الشرق والوسط الجزائري.

 الوقود لا يكفي للانتصار !

باتحاد الرحمانيين مع المقراني، كسبت الثورة حماسا وعددا من المقاتلين فاق الـ 150 ألفا حسب الروايات، ينحدرون من 250 قبيلة من منطقة الصومام وجرجرة والبيبان والبابور والهضاب العليا… خاض المجاهدون بقيادة سي عزيز وأخيه محمد الحداد معارك شرسة، وامتد لهيب الثورة ليصل حتى مناطق شرشال غربا وورقلة جنوبا… وهكذا قدم الشيخ الحداد الوقود اللازم لثورة 1871 ضد الـ “الرومي” الذي كان تفوقه واضحا في الجانب التقني والتنظيمي، مقابل ثوار مستعدين للدفاع عن أرضهم إلى آخر رمق، ولكن ينقصهم التجهيز اللازم للحرب، بل وينقصهم حتى التنسيق بين قادتهم، الشيء الذي أضعف شوكتهم، خاصة بعد مقتل المقراني في ضواحي البويرة في 05 ماي 1871، فلم يلبث أن استسلمت عائلة الحداد فاعتقل ابنا الشيخ الحداد في أواخر شهر جوان واستسلم الشيخ الحداد في 12 جويلية 1871… 

مصير مشتت

اقتيد أعضاء عائلة الحداد إلى المحاكمة في قسنطينة، فحكم على الشيخ أحداد بالسجن الانفرادي لخمس سنوات. وقد أخبرنا السيد إسماعيل بلحداد، وهو من أحفاد الشيخ، والقائم بضريحه في قرية صدوق، أن الشيخ، عند النطق بالحكم، قال للقاضي: لقد حكمتم علي بخمس سنوات، ولكن الحاكم الأكبر حكم علي بخمسة أيام ! وهذا ما حدث فقد توفي بعد بضعة أيام، ودفن في قسنطينة.

أما سي عزيز وأخوه محمد فقد حكم عليهما بالنفي خارج البلاد، إلى كاليدونيا الجديدة بالمحيط الهادي. ولكن سي عزيز كان شديد الإلحاح والشوق للعودة إلى البلاد، فأكثر من مراسلة أهله ومراسلة السلطات الفرنسية دون جدوى، فركب خفية سفينة قادته إلى أستراليا، وبعدها إلى الحجاز، وعاود مراسلة السلطات الفرنسية ولكنها رفضت منحه الإذن بالدخول إلى الجزائر، ولبث هناك مدة، إلى أن حصل له أحد أبنائه على إذن بالعودة، فعاد عن طريق فرنسا ولكنه توفي في مرسيليا… ودفن إلى جانب والده في قسنطينة.

أما أخوه محمد فقد استسلم للظروف وبقي بكاليدونيا ولم يتضح مصيره…

العودة إلى صدوق

أوصى الشيخ أحداد بأن يدفن في الأرض التي شهدت ميلاده، تعلمه، روحانيته وكفاحه. ولكن السلطات الفرنسية رفضت ذلك خوفا من إعادة إحياء الحماس الثوري. ولم تتحقق رغبته إلا في سنة 2009 أين قامت السلطات الجزائرية ببناء ضريح ضخم له في قريته، ونقلت رفاته وابنه سي عزيز إلى صدوق أوفلا مرقدهم الأخير في احتفال كبير. يحوي الضريح الآن ثلاثة قبور للشيخ وابنيه، إضافة إلى متحف صغير يحوي معرضا للصور وأدوات تاريخية ومكتبا ومكتبة… ويقوم على خدمته أحد أحفاده، السيد إسماعيل بلحداد، والذي استقبلنا مشكورا، وشكا إلينا تخلي الدولة عن متابعة العناية بهذا الصرح الكبير الذي أنفقت عليه أموالا طائلة، ومشقة الحفاظ عليه وصيانته بمفرده دون مساعدة.

وليد ساحلي

مقالات ذات صلة

إغلاق