آراء وتحاليلنقطة تفتيش

التّاريخ والأسطورة

تتأسسle dernier tabou كل الدّول على أسطرة الوقائع التاريخية من أجل شرعنة وجودها وتغذية المخيال الشعبي لجماهيرها. خاصّة تلك التي قامت على ثورات (الثورة الأمريكية، الفرنسية، البلشفية، الجزائرية..) لكنّ التاريخ القريب نسبيا للثورة الجزائرية -حيث لا يزال صنّاعها أحياء ويتحكمون في زمام الدولة- هو ما يجعل تفكيك الأساطير المشرعنة للنظام ضرورة عاجلة للمؤرّخ والمفكر السياسي. يبدو أن المؤرّخين الجزائريين لا يشتغلون في الاتجاه بسبب غياب الحرية الأكاديمية في الجامعات ولكن أيضا بسب ضعف الأدوات والمؤسسات المعرفية التي يعتمدها المؤرّخ الجزائري، الأدوات والمؤسسات التي توضع بوفرة تحت يد المؤرّخ الفرنسي. وفي هذا الاتجاه البحثي، أي تفكيك الأساطير المؤسسة للدولة في الجزائر، يتّجه مشروع “بيار دوم” Pierre Daum الذي بدأه منذ حوالي 5 سنوات بكتاب حول: “الأقدام السوداء الباقين بعد الاستقلال” ، ثم كتابه الأخير: “الطابو الأخير: الحركى الباقين في الجزائر بعد الاستقلال” 2015. الكتاب الذي أحدث ضجّة مؤخّرا ولم نقرأ عنه بالعربية أية مراجعة.

الكتاب عبارة عن تحقيق صحفي/تاريخي ثريّ ومُسند بترسانة قوية من الوثائق والشهادات والأرقام، وهو يعلن عن استراتيجيته ونواياه البحثية منذ البدء في مراجعة منطوقات الخطاب الوطني التي قامت عليه جزائر الاستقلال حيث يرى أن: “إحدى نواة خطاب الدولة الجديدة هي تلك التي تعتبر أن الشعب الجزائري قد ثار كلّه ضد المُضطهد الاستعماري.” (ص 24). إن مقولة “الشعب كلّه” مقولة سياسية وليست تاريخية، لأن لن تصمد كثيرا أما أي تحقيق إحصائي موثّق، يعيب “دوم” أنه لا يوجد مؤرّخ جزائر واحد تجرّأ على الخوض فيه، لأن ذلك يؤدّي إلى البحث في “عدد الحركى” ونسبتهم وتوزيعهم ومصيرهم  وهو ما ظلّ طابو سياسي طال البحث العلمي ولا يزال ملفّا مطويا: “إن الحُجّة مقلوبة تماما، لأن الواقع يقول أن الكثير من الجزائريين، وقفوا إلى “جانب فرنسا” خلال حرب الجزائر، إلا أن ذلك “الوقوف الى الجانب الفرنسي” كما سنرى لا يعني البتة التعاطف الفكري مع الاستعمار.. كما أن رفض استغلال معاناة الحركى من طرف ورثة الجزائر الفرنسية يمكن أن يؤدّي، بوعي أو بدونه، إلى نزع الشرعية عن هذه المعاناة.” (ص23) 

 يتقوّم كتاب “دوم” بعدّة استراتيجيات أساسية أولها: تتبّع تطوّرات مصطلح “الحركي” وتحوّلاتها انطلاقا من بدايته سنة 1956 حين كان مجرّد تصنيف لوظيفة إدارية تُطلق على المُستخدمين الجزائريين في الإدارة والجيش الفرنسيين، ثم أصبح يُطلق على كل الأصناف الخمسة من المستخدمين الإضافيين les supplétifs بدون تمييز أي: جهاز الحركى، و “الفرق الإدارية المُختصّة S.A.S  ” و”المجندين” والمنخرطين في الجيش والحرّاس (العسس). وهؤلاء لم يكونوا بالضرورة ضد الاستقلال أو متعاطفين من النظام الاستعماري بقدر ما قبلوا العمل مع السلطات الاستعمارية لأسباب كثيرة لا تخلو من إرادة التوريط ومن حتمية الاصطفاف. لكنّ مصطلح الحركى وعددهم بقي في تصاعد وتحوّل، حتى بعد الاستقلال، إلى أن صار –اليوم- مرادفا لمعنى الخيانة الوطنية: “الحركي هو الآخر ! اليوم وفي سياق من تقديس الثّورة أصبح شجب الحركى، عادة في نوع من المزايدة في الكراهية والاحتقار، تسمح بالضدّ أي تأكيد الوطنية.” (ص 30)

الاستراتيجية الثانية للبحث تقوم أيضا على التمييز بن الواقع والمُتخيّل، حيث أن صورة الحركي في معظمها تشكّلت ضمن مزايدات تخييلية، فالحركى في الواقع لم ينخرطوا في الحرب المسلحة المفتوحة بين الجيشين بسبب افتقادهم التدريب الكافي لذلك، كما أن وظيفتهم عادة ما كانت تنحصر في الحراسة والتوسط بين السلطات العسكرية والمدنيين وغيرها، غير أن استحداث فرقة كوموندوس شهيرة في الغرب الجزائري، لا يتجاوز عددها 250 حركي، ساهم في تعميم صورتهم المخيفة على بقية الحركى: “ففي حين لا يمثّل هؤلاء الكومندوس سوى 8%  من مجموع الحركى، نجد أن صورتهم قد تمّ سحبها على جميع الحركى في عيون الجزائريين.” (ص 36) وهو ما حدث فيما يخص بعض الممارسات الشاذة والتجاوزات التي قام بها بعض الحركى والتي ظلت مصدر خيال يغذّي “صورة الحركي: “إن صورة الحركي المُغتصِب للنساء تجذّرت اليوم عميقا في المخيال الجزائري.” (ص 38)

أما الاستراتيجية الرابعة فهي تقوم على تفكيك الموقف الفعلي للجزائريين من الثورة ومن الاستعمار، حيث يكشف بالأرقام والاحصائيات الدقيقة أن الجزائريين كانوا دائما منقسمين بين “جيش التحرير” وبين “الجيش الاستعماري، وفي أكثر الأحيان ظلّوا شبه مُحايدين وسلبيين إزاء الأحداث، فيما كلّ من طرفي الصراع يعمل على استقطابهم، يقول دوم: “بين “جبهة التحرير الوطني” والجيش الفرنسي، ظلّ الجزائريون ككتلة سالبة متقبلة للغزو.” (ص 40) ، وبالتالي فإن كل من أسطورة الحنين إلى “الجزائر الفرنسية” وأسطورة الوطنيين تجانب الواقع.

بمعطيات إحصائية محايدة وموثّقة وتحليل على درجة عالية من الموضوعية يُدشّن “بيير دوم” خطابا جديدا في التعاطي مع الذاكرة المشتركة بين الضّفتين، ويقدّم نموذجا في الجمع بين حصافة التحقيق الصحفي ودقّة المؤرّخ، فهو لا يخفي التوجّهات الصحفية للتحقيق لكنّها يوثّقها إلى الحقائق التاريخية، وتتضح استراتيجية الخطاب جيدا في تحليله للمعطيات الاحصائية الخاصة بالحركى: “إن 250 ألف مُجنّد تضاف إليها 170 ألف جندي نظامي و30 ألف من الوجهاء والمنتخبين والموظفّين تعطي ما مجموعه حوالي 450 ألف رجل راشد جزائري كان ينُظر إليهم من طرف مواطنيهم خلال سبعة سنوات ونصف بوصفهم “متعاونين” مع فرنسا، والذين عليهم في لحظة الاستقلال إما أن يشرحوا موقفهم، ويبررون وجودهم، وإما الاختيار بين الهرب والاختفاء.” (ص 52). إن مثل هذه المعطيات تضعنا مباشرة أمام واقع آخر مفاده أن الحرب (وليس القضية) قد قسمت المجتمع الجزائر إلى معسكرين متقاتلين “فإذا طبقنا معامل 3.7 بغرض تقييم عدد النساء والأطفال المعنيين بمصير هؤلاء الـ 450 ألف رجل، فإن هذا يعطي  عدد 1.6 مليون جزائري (على 9 ملايين) ممن وجدو أنفسهم إلى جانب فرنسا خلال حرب التحرير.” (ص 53). أمّا إذا افترضنا أن عددا مماثلا لهؤلاء يقف في المعسكر المقابل، أي إلى جانب “جبهة وجيش التحرير” فهذا يعني أن حوالي ثلاثة ملايين كانت في حالة حرب ونشاء مقابل ستة ملايين أخرى في حالة سلبية من الترقّب والانتظار والانسحاب.

وإذا كانت الإحصائيات بشأن المُستخدمين من طرف الجيش والإدارة الفرنسية دقيقة وموثّقة فإن الإحصائيات في الجانب المقابل، أي عند قيادات الثورة، قد يقيت محلّ مضاربة وتلاعب سياسيوي كبيرين، وهذه إحدى النقاط الغامضة والحساسة في تاريخ الحرب التحريرية، كما يقول دوم: “إنني على وعي تام بأن العدد الإجمالي للمجاهدين والمناصرين الآخرين للثورة يمثّل نقطة حساسة جدا بالنسبة للخطاب التاريخي الجزائري المؤسس على أسطورة شعب يفترض أن انخرط بشكل جماعي في الكفاح من أجل الاستقلال، سوى حفنة من الحركى.” (ص 54)

وحسب “دوم” دائما، يبدو أن النهاية الفعلية للحرب سنة 1960، قد ضاعف من عدد الملتحقين بصفوف الثوار بغرض الحصول على الامتيازات في ترتيب الوضع الجديد، كما أن حساب عدد الضحايا من أرامل ويتامى ومنفيين ومهجّرين في المغرب وتونس وضحايا 1945، قد ضاعف من عدد المطالبين بالتعويضات بعشرات المرات، ولهذا: “ففي سنة 1974 أحصت “المنظمة الوطنية للمجاهدين” على أساس قائمة إسمية، حولي 336 ألف مجاهد، من بينهم حوالي 184 ألف على قيد الحياة أيام الاستقلال، و152 ألف قتيل، وهو عدد قريب من العدد الرسمي المعترف بها من طرف فرنسا أي 143 ألف قتيل.” (ص 58)

  إن الطريق نحو الموضوعية في التاريخ يبدأ بتدقيق المعطيات الإحصائية وسحبها من التوظيفات السياسية والمُصادرات الإيديولوجية، وينتهي بكسر كل الطابوهات التي تحكم كتابة التاريخ، وفتح الذاكرة المشتركة على نقاش ديمقراطي أصيل خارج التشنّجات الإعلامية والسياسية لا تزال تحكم البحث.

 بقلم سماعيل مهنانة 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق