شهدت أوبرا الجزائر بوعلام بسايح، في إطار الاحتفال بالذكرى الثانية والستين لعيد الاستقلال، عرضًا فنيًا مميزًا بعنوان “قبلة الأحرار”، من إنتاج وزارة المجاهدين وتنفيذ أوبرا الجزائر. هذا العرض الفني التاريخي يهدف إلى إحياء إشراقات الحرية على أرض الجزائر ونزعة التحرر المتجذرة في الشعب الجزائري عبر العصور، ويعبر عن الهوية الوطنية والروح الثورية بأسلوب فني معاصر.
تألف العرض من تسعة مشاهد مزجت بين اللوحات التمثيلية، الكوريغرافية، الراقصة، والغنائية. استخدمت الملحمة تقنيات رقمية حديثة، ومشاهد درامية وحوارية معبرة، لتأخذ الجمهور في رحلة عبر مختلف الحقب التاريخية من خلال فسيفساء من الطبوع الفنية التي تزاوج بين عراقة الأصول ومعاصرة التعابير الفنية الجزائرية بتنوعها وثرائها. كل مشهد ولوحة من العرض عمقت دلالات البعد الإنساني والانتماء الجزائري، مما أضفى جمالًا لا متناهيًا على البعد التاريخي للأمة الجزائرية، التي تمتد جذورها إلى أعماق التاريخ وتواصل حضورها المعاصر بكل قوة.
ساهم في كتابة النصوص والحوار لهذه الملحمة الشعراء إبراهيم صديقي، الشاعر الفلسطيني رائد ناجي، هشام بوسهلة، والبروفيسور محمد الأمين بحري. وتم التدقيق التاريخي واللغوي من قبل البروفيسور طرشاوي بلحاج، مما أضفى على العرض دقة لغوية وفنية عالية.
أدت دليلة حليلو دور الجدة نوميديا، التي ظهرت كفيفة تقودها حفيدها، واصفة له ما تراه بقلبها، حاثةً إياه على الحفاظ على وطنه من خلال حجر تلتقطه من الأرض وتمنحه له كرسالة من الأرض للإنسان. هذا الحجر يمر عبر كل المشاهد واللوحات، معبرًا عن تواصل الروح الثورية عبر الأجيال.
في المشهد الرابع من اللوحة الخامسة، ظهر كل من الفنانين المتميزين عثمان بن داود وفريمهدي محمد اللذين جسدا دور قادة فرنسيين ضد المقاومات الشعبية التي كانت تتجه نحو التنظيم والصلابة في الدفاع عن الأرض، وبرزت في هذا المشهد سبع مقاومات على الركح. ينتهي المشهد بلوحة كوريغرافية وغنائية صحراوية تحتفي برقصة المحاربين المتجذرة في ثقافة الإنسان الجزائري.
كما لقي مشهد زعماء الثورة تفاعلًا كبيرًا من الجمهور، حيث جسد هذا المشهد طفولة زعماء الثورة التحريرية الستة: العربي بن مهيدي، كريم بلقاسم، رابح بيطاط، محمد بوضياف، مصطفى بن بولعيد، وديدوش مراد. كل قائد خصص له العرض لوحة تسلط الضوء على تعامله الأسري وحواره مع أمه، مشيرًا إلى الأصالة والتربية الثورية التي تلقوها من أمهاتهم.
تأثر الجمهور وتفاعل أيضًا بشدة مع مشهد الأمهات الكفيفات، حيث ضم هذا المشهد ثماني أمهات جزائريات أصبن بالعمى نتيجة لجرائم الاستعمار. تحكي كل أم قصة عمائها وفقدانها لأبنائها الشهداء، لتتحد جميعهن في البكاء والنظر بقلوبهن، وتشاركهن في النهاية دليلة حليلو بدورها كالجدة نوميديا.
واهتزت القاعة عند دخول الفنان القدير عبد النور شلوش في مشهد الاستقلال، الذي خُتمت به الملحمة. هذا المشهد عبر عن تحول الجزائر إلى دولة مستقلة، متجهة نحو البناء والتشييد وتعزيز التعليم والاقتصاد، وبناء جيش قوي مستلهم من جيش التحرير الوطني.
لاقى العرض تفاعلًا كبيرًا من الجمهور الذي أبدى إعجابه وتأثره بمشاهد العرض المختلفة. استطاعت “قبلة الأحرار” أن تترك بصمة عميقة في قلوب الحاضرين، مخلدة ذكرى الاستقلال برؤية فنية وإبداعية تعبر عن روح الحرية والانتماء الوطني.
بهذا العرض الفني المتكامل، أكدت الجزائر مرة أخرى على عمق ارتباطها بتاريخها الثوري وأصالتها الثقافية، معبرة عن رؤيتها المستقبلية في بناء وطن حديث ومتطور. “قبلة الأحرار” لم تكن مجرد عرض فني، بل كانت رسالة تاريخية وإنسانية تجسد كفاح الأمة الجزائرية عبر العصور.