آراء وتحاليل

(النورمالية) و السالتو إلى الوراء* !.. بقلم مصطفى كيساسي

هنالك من الإبداعات ما يُساعد على ولوج الآفاق، و هنالك من البدع ما يغرقك في ظلام الأنفاق، و بينهما وصفةٌ سحرية ضدّ الطبيعة (contre nature )، تحاول بواسطة الخدع البصرية السياسية ( l’illusion optique politique ) أن تبيع لنا وهم الإتفاق بين متضاديّن يريدان بناء الإجماع على أسس النفاق.
هذا بالذات هو حال أصحاب بدعة ( النورمالية) التي تحوّلت إعتباطيا إلى لفظة جديدة (Néologisme ) دون أن تُؤسس على تبعات علمية تعطي للمفهوم تعريفه السياسي، و على عكس هذا تستمدُ من ظاهرة سلبية قديمة (أصبحت قاعدة) مرجعية للتعريف لكل الأمور غير العادية في المجتمع على أنها بديهية و هو مصطلح (نورمال)، الأمر جدّ عادي بالنظر إلى تزواج اللامبالاة الراسخة منذ زمن بالعاطفة الحراكية التي حولت سنوات السبات العادية ( normale ) إلى رغبة التغير الأنية و السريعة عن طريق (النورمالية)، التي لا تعدوا أن تكون وسيلة لتغيب العقل و التفكير و النقد المقترنون بالمقاييس ( Les Normes ) التي بعدما إندثرت في المعيشة اليومية و المعاملات، و الثقافة و العلاقات، واصلت زحفها لتصل إلى ميدان السياسية التي هجرها الكل (بمنطق نورمال) و حين العودة إليها سفهوها بلا منطق ( النورمال) ، و التي حوّلت باسم ( خاوة خاوة ) الشعوري و المزيف و نقيض المواطنة (citoyenneté ) كل مبادرة للنقاش حول المواقف و التوجهات السياسة و الفكرية و مشروع المجتمع، عملا مرفوضا، بل إتهاما بالرغبة في التقسيم و أحيانا بالخيانة، و هي نفس الأساليب العنيفة التي ورثناها منذ الاستقلال و التي لم تكن حصرية على النظام، إلى جانب هذه الوضعية المرضية غير السوية، تنشط الخلايا النائمة التي تحرص على هذا التلاحم الظاهري، بحجة هدف التغير، دونما أن تغيّر قيد أنملة من مشروعها الظلامي، من غير توليفه بحلة جديدة و بملامح التفتح قصد تسويقه للجماهير و لنخبة الحراك الجديدة التي و بالنظر لضعف أدواتها النقدية و مرجعياتها الفكرية، بالإضافة إلى تصورها لتغيير النظام على أنه نوعٌ من الثأر الخاص، أصبحت تسبح بين تيارين متناقضين تماماً جعلا منها تغرق في مفارقات المطالبة بالتمدين دون الجرأة على ( و حتى قبول) التموقع مع الديمقراطية الحقة كلها و لا حرج ( و أحيانا القبول) التموقع مع دعاة الثيوقراطية القديمة و المتجددة بهندام التعايش، و التي تعتقد جازمة أنها تسير الأمور عن قناعة الحسابات السياسية حاليا التي تفرض مسايرة
أعداء الأمس، و الحسابات الرياضية للمستقبل التي ستتخذ ذريعة الغلبة العددية كسيف ضد الديمقراطيين لأنها تختزل الديمقراطية في نقطتين؛ وسيلة للوصول للحكم و و وسيلة لتحكيم الأغلبية السياسية على الأقلية السياسية.
من غير الممكن بناء مستقبل عادي، دون تقديم كشف حساب الماضي، و من يتعتبر ممارسة القفز العالي على جروح الأمس رياضة تجلب المتعة و تهيج المتفرجين و تنسي ضرورة التأسيس لحد أدنى من المقاييس عند الحديث عن الغد السياسي و من بينها التحريم للعقل المتسائل عن خلفيات و جذور و إمتدادات و أهداف بعض ( الإخوة ) في الحراك الذين يقدمون نفس الطرح الوهابي للتسعينات مع اختلاف التغليف و التوليف و طبق الحرير الجذاب، و تغيّر مركز الولاء و تحوله، فهو يجانب الحقيقة و الواقع و لن يغير إلاّ ليصبح في حكم طاغية أكبر و أضرّ يسيّرُ وراء البحار، لكن هذه المرة ليس عبر فيديوهات بالزنجبيل.
من العادي أن يمتلك كلّ جزائري الحرية في الفكير و التموقع لكن أن تكون ممثلا حصريا لعلامة أيديولوجيا تريد تحقيق الخلافة بك و عندك، فهذا ليس (نورمال)، أن تدافع على مواقفك في الواقع أمل عادي، أما أن تنقسم إلى معارضة تحريضية من الخارج و معارضة تتسلل في الحراك و معارضة مُساندة متوغلة و إنتهازية من الداخل فهذا ليس ( نورمال) و من يدافع عنك و يقول أنك في سياق ( النورمال) فهو ليس ( بنورمال)، و لتعرف فقط إنا لسنا لنختار بين نظام نريد تغيره و نظام لا نريد أصلا أن يكون، و عند ضرورة الإختيار سنختار من منه نأخذ و لو قليلا من النور دون من يسكننا الظلمات و هذا بالنسبة لنا جدّ (نورمال ) لأننا قرأنا في مدرسة و طنية نورمالية عالية ( École nationale Normale Supérieure )!

* السالتو إلى الوراء: في الجمباز هو القفز العكسي إلى الوراء.

 

بقلم مصطفى كيساسي

مقالات ذات صلة

إغلاق