آراء وتحاليلوطني

ما الذي يحدث في الأفافاس؟ – الحلقة الثانية –

مظهر السلطة وأصحاب الأوامر

إلى يومنا هذا لا تزال  أسباب استقالة علي العسكري غير معروفة، مع أنه وعد بأن يكشف للمجلس الوطني الأسباب التي جعلته يتخذ   مثل هذا القرار ذو العواقب الخطيرة جدا. وبشكل غير مفهوم، لم يكشف لا الحزب ولا وسائل الإعلام عن عن أية معلومة في الموضوع.

يكتفي علي العسكري كتبرير وحيد لسلوكه بالتكرار على كل من يريد التنصت بأن هدفه هو “إعادة الحزب إلى المناضلين”. أما بالنسبة إلى أنصاره ، أو بالأحرى المتحالفين الظرفيين معه، فهم يصرخون من فوق كل الأسطح بأنهم يريدون التخلص من “الديوان الأسود”.

 

تدخل هذه الصيغة التآمرية ضمن المصطلحات المشتركة المتداولة في  الصحافة “المستقلة” لتعيين عدو الساعة من دون تسميته. ولكن عندما يرتبط كلام علي العسكري بهذا العنصر الخطابي للصحافة المأمورة،  يفهم بسهولة بأن هذا “الديوان الأسود”  الشهير قد قام بمصادرة الحزب.

ترتسم  بوضوح من وراء هذه التعابير الجوفاء والاتهامات الغامضة ولكنها في غاية الخطورة، الآليات التكتيكية المستعملة للاستيلاء على الحزب. ويتم ذلك وفق تقليد ثابث للتسلل في الأحزاب والتلاعب بهياكله، كما أظهرته  “المؤامرة العلمية” المشهودة التي أدت، في عام 1996 إلى الإطاحة بالسيد عبد الحميد مهري وارجاع جبهة التحرير الوطني في إلى بيت طاعة النظام.

تشير هذه التعابير المشحونة كثيرا بالمعاني  بشكل مباشر إلى هوية صاحب الأمر بالمناورة الاستيلاء على السلطة و”تطهير” الأفافاس. فتوقيع البوليس السياسي يبرز تماما في آليات ذر الرماد والتضليل وإحداث حالة من الخلط والارتباك بصفة منظمة.

 

 

خداع، محسوبية ومطاردة الساحرات

من هم الذين يتم تعيينهم لتوجيه غضب المناضلين نحوهم ؟عن من يتحدث؟ من هم هؤلاء الذين يشكلون هذا “الديوان الأسود”؟ فهم لا يتم تعيينهم بالاسم ليس بسبب تحفظ أو حياء ما، بل لان النساء والرجال الذين يحسبون على هذا “الديوان الأسود” المزعوم هم مناضلون منذ فترة طويلة وهم يمارسون مهام بصفتهم كمنتخبين في الحزب وهم معروفون لدى الجميع.

 

ويتعلق الأمر بسليمة غزالي ، مديرة نشر “الجزائر الحرة” ومستشارة القيادة الوطنية، مجيد روار، أمين وطني مكلف بالعلاقات الدولية، شافع بوعيش، رئيس المجموعة البرلمانية، عزيز بالول، عضو الهيئة الرئاسية الذي انتخب خلال المؤتمر الأخير وكريم بالول، منسق لجنة الأخلاقيات.

 

وليس خفيا على احد أن هذه المجموعة من كبار المسؤولين كانوا ضمن الدائرة الاولى من محيط حسين آيت أحمد. فالإدعاء بأن هناك سلطة ظل داخل الحزب يمثل إهانة موجهة إلى إطارات ومناضلي الحزب الذين يعملون دون هوادة منذ عقود من الزمن لإبقاء الحزب على قيد الحياة. كما يمثل ذلك تنكرا للإرث السياسي لحسين آيت أحمد.

حتى وان لم يتفوه بها  بشكل مباشر، فمن الواضح أن مثل هذه الاتهامات لا يمكن أن تصدر من دون موافقة علي العسكري. ومن الجدير بالتذكير في هذا الصدد بأن علي العسكري  يشغل مناصب عليا في الحزب منذ أكثر من عشرين سنة. وقد كان لأكثر من عقد من الزمن عضوا في مختلف الأمانات الوطنية ، ثم سكرتيرا أولا  للحزب مرتين؛ وقد انتخب في الهيئة الرئاسية حيث كان يؤدي فيها دور المنسق منذ عام 2013 ، أي لمدة خمس سنوات طويلة.

 

فإذا كانت هناك حقا مصادرة للحزب من قبل مجموعة ، فإما أنه جزء من هذه المؤامرة ، أو بارك القرارات التي اتخذتها. الأطروحة التي يدافع عنها ليست مقنعة إذا، خاصة وأن علي العسكري كان في موقف حرج منذ مدة بسبب ميله إلى المحسوبية. وقد وجه له العديد من المناضلين اللوم لأنه فرض ابنه وابنته وصهره على رأس قوائم المترشحين في الانتخابات المحلية في نوفمبر 2017 ، وهو اقتراع سجل فيه الأفافاس تراجعا بدائرته الانتخابية في بومرداس.

 

كما وجه له اللوم أيضا بعد أن تحالف مع حزب الحركة الشعبية الجزائرية لعمارة بن يونس، مما سمح لهذا الحزب المجهري التابع كليا للبوليس السياسي بتبوء رئاسة المجلس الشعبي الولائي في بومرداس. وقد وجد هذا المناضل القديم في هذه الظروف اوسيلة وهمية للخروج من هذا الوضعية غير المريحة.

ويبقى أيضا جانبا آخرا يتمثل في كون أن تحمل دور قيادة حزب معارض لا يفتح فرص لجني “المكافآت” بكل معاني الكلمة…في حين أن الريع قريب و في متناول اليد، وبكل مفاتنه… يكفي لذلك فقط القيام ببعض التعديلات مع السلطة ومع الضمير ليتسنى الوصول اخيرا الى ما كان يسميه الصحافي المرحوم علي باي بودوخة ب”وعاء العلف أو المانجوار بالفرنسية “.

 

محند أمقرانالشريفي ، خبير ورئيس ديوان قاصدي مرباح سابق

هذا الرجل الذي يبدو العقل المدبر للهيئة الرئاسية الجديدة لا تعود مكانته في الأفافاس سوى الى ثقة حسين آيت أحمد. كان مؤسس الحزب يبحث عن خبراء، فأوكل له مهمات محددة خلال السنوات الأخيرة. لكن صلاته بالحزب ليست وطيدة.لا يعرف لمحند أمقرانالشريفي،الذي كان موظفا سابقا في منظمة تابعة للأمم المتحدة في جنيف ، بنشاطه داخل الأفافاس. وكانت تقتصر مساهمته في تقديم المحاضرات والمقابلات ونشر بعض النصوص الفكرية. وقد كان مدير ديوان رئيس الحكومة السابق(والرئيس السابق لجهاز الأمن العسكري-المخابرات) قاصدي مرباح و وزير التجارة في حكومة عبد الحميد الإبراهيمي، قبل أن يتم توظيفه من طرف برنامج الأمم المتحدة من أجل التنمية . فهو وصل في وقت متاخر الى الحزب و وجد نفسه في القمة من دون أن يمر عبر هياكل الحزب.
ويفهم بسرعة بمجرد قراءة نصوصه بانه لا يحمل ثقافة الأفافاس ولا توجهه السياسي الأصيل. فوجوده في هذا المستوى من الجهاز يعود فقط الى صفته كخبير والى الثقة كان يتمتع بها بهذه الصفة لدى مؤسس حزب جبهة القوى الاشتراكية. ومثل آخرين من قبله، هل سيكون جديرا بها؟

 

هذا الرجل، المعروف بقربه من أجهزة النظام، هو المحرض الرئيسي لمجرى الأحداث الأخير على رأس الحزب. ما هو الدور الذي يريد أن  يلعبه الحزب؟ من دون شك ستكون الأسابيع القادمة كفيلة بتنوير المناضلين عن الأهداف الحقيقية للهيئة الرئاسية. لأنه ، كما يعلم الجميع ، لا يمكن لحزب من أهمية الأفافاس أن يكتفي بتعيينات مكثفة للمسؤولين كتعبير عن خط سياسي وعن استراتيجية للتحالفات.وسيتطلب في يوم أو آخر اتخاذ موقف والعمل  بخصوص القضايا الحاسمة التي تواجهها البلاد.

 

الأفافاس والعاب السلطة

 

لكن عدم اليقين قد لا يدوم طويلا. بل ان  الثلاثي /العسكري-شريفي- حاج جيلاني/، قد اعطى نظرة عن الاتجاه الذي يريد أن يفرضه على الحزب خلال الأشهر المقبلة.

يكشف البيان الصحفي الذي تم نشره بتاريخ 30 مايو 2018 جزء من الحجاب عن أهداف القيادة الجديدة. في هذا النص الخاوي والأجوف والبعيد كليا عن الخط السياسي ولغة الحزب، تخلص الهيئة الرئاسية الجديدة الى ما يلي:

“اليوم، أكثر من أي وقت مضى ، تمر الجزائر بنقطة تحول في تطورها التاريخي. قبل أو بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، لن يكون سوى تضاف الطاقات، الذي يهدف مشروع إعادة بناء إجماع وطني وشعبي الى ترقيته، الذي يسمح بمواجهة رهانات وتحديات هذا القرن الجديد”.

 

لا تترك هذه الخلاصة مجالا واسعا للتفسير، فهي من دون غموض كبير، عرضا للخدمة لغاية دمج الأفافاس في ترتيبات النظام. على الرغم من أن تعبير الهيئة الرئاسية ثقيل للغاية ، هناك في البيان الصحفي جملة مشبعة بالمعاني تلفت الاهتمام: “قبل أو بعد الانتخابات الرئاسية”.

 

ويشير غياب التمايز الزمني المعبر عنه بأن الهيئة القيادية الجديدة للأفافاس لا تعي أية أهمية سياسية الى إنتخابات رئاسية تبدو ملعوبة مسبقا. ففي سياق عام مضطرب ، من المحتمل جداً أن يكون عبد العزيز بوتفليقة ، العاجز والابكم ، أن مرشحا لخلافة نفسه. يظهر هذا التمديد مأزق الشيخوخة في قمة السلطة الفعلية وانعدام القدرة على تحديد خلافة من داخلها.

 

وفي كل الأحوال ، فإن تمديد لعبد العزيز بوتفليقة في دوره المريح كواجهة “مدنية” أو استبداله بشخص آخر معين من طرف النظام لن يكون له من أثر سوى تعميق  الفشل السياسي والزيادة في خطورة وضع البلاد المقلق حاليا.

 

ويبقى أن عناصر الخطاب تشير إلى أن الأفافاس “الجديد” يباشر بصفة اكيدة تغييرا في التوجه الذي سيؤدي به بصفة آلية، من التنازل إلى التواطؤ، إلى الالتحاق بجحافل “التنظيمات-الذريعة”  التي تشكل واجهة النظام.

 

الزبائنية في مواجهة التشبيب

 

أدت الأحداث الأخيرة ،على الأقل في الوقت الحالي ، إلى توقف مفاجئ لعملية انتقالية الذي كان يعيشها الأفافاس. فبعد وفاة زعيمه التاريخي ، كان على الحزب أن يأخذ الوقت الكافي للتفكير وإعادة تنظيمه لبدء مرحلة جديدة من مساره.

كان هذا الانتقال يسير في الاتجاه الصحيح عموما.فقد برز العديد من المناضلين الشباب الذين أظهروا قدرتهم على تولي قيادة في السنوات القادمة. وكان من المفترض أن يشكل مؤتمر الحزب مرحلة هامة لعملية الانتقال وكان ينتظر منه  إعطاء نفسا جديدا للحزب قصد مواجهة خطط النظام.

 

غير أن ، كما سبق ذكره ، استقال علي العسكري قبل انعقاد المؤتمر السادس بصفة مدوية ونجح مع أنصاره في فرض مؤتمر بيروقراطي غير عادي.وقد أبعد هكذا الحزب عن أهدافه المتمثلة في تشبيب الكوادر و توسيع قاعدته واعادة تنشيط العمل السياسي.

 

ولكي تظهر بأنها تنشط وقصد مكافأة مؤيديها ، أجرت القيادة الجديدة سلسلة من التعيينات ، بعضها غير مفهومة ، وبعضها غريبة مثل إنشاء منصب الأمين الوطني “الانتقال الطاقوي” وأمين وطني” للتراث” …

 

لقد وسعت القيادة الجديدة النطاق ولم تتردد في اللجوء الى شخصيات كانت قد انسحبت من الحياة السياسية لأسباب وجيهة أو سيئة. وتشبه هذه الدعوة إلى تأطير ليس دائما ذا مصداقية استراتيجية تعويضية لسد الفراغ الذي تم إحداثه عقب المؤتمر غير العادي.

رأينا عودة أحمد جداعي و وعبد المالك سدالي ودليلة طالب إلى “المكتب الاستشارة” ، وهو نوع من “الثنك-تانك” أو لجنة الخبراء تابع للهيئة الرئاسية. وهم مسؤولون سابقون عرفت مساراتهم تطورات مختلفة ، لكنهم يجتمعون في كون انهم غابوا عن الميدان في السنوات الأخيرة. يشير المراقبون أيضا الى تعيين شخص معجب بديمقراطية “الأبرتهايد” الإسرائيلية ، سعيد مغاري، الذي لفت الانتباه خلال الانتخابات المحلية في بومرداس في عام 2017 ، بدعمه لمرشح حزب العمال الذي كان ينافس آنذاك … علي العسكري.

وبالتالي تنحصر هذه القرارات العضوية في سلسلة من التعيينات غير المقنعة في غالبيتها- إن لم نقل أكثر- ، لأهداف غامضة. ومع ذلك ، يظهر واضحا أن القيادة الجديدة للأفافاس فضلت باستخفاف أن تقوم على حساب الجيل الجديد باستعادة  حرس قديم لم يعد لديه ما يقدمه، باستثناء تصفية حسابات. فمن الواضح أن التشكيلة الجديدة تتضمن جانب انتقامي لا يجب التقليل من أهميته حيث من شأنه أن يؤثربشكل خطير على مستقبل الحزب.

الواجهة والمحرض والمنفذ الأساسي

ويسمح مسار الأحداث بملاحظة أن علي العسكري هو “الشخص-الواجهة” لعملية  “تصحيح” مهندسها محند أمقران الشريفي. وفي ترتيبات القيادة ، يضطلع السكرتير الأول، محمد حاج جيلاني، بدوراً رئيسياً، لان سيطرته على الجهاز تعطي له القدرة على التحرك كما ريد دون خشية أية معارضة.

تم تعيين السيد الحاج جيلاني سكرتيرا أولا لمدة منذ سنة تقريبا من دون أن يقدم  اية حصيلة. وكان على رأس القائمة خلال الانتخابات التشريعية 2017  بعين الدفلة حيث لم يحصل الحزب على أي مقعد في تلك الولاية. ولم ينجح خلال الانتخابات المحلية في نوفمبر 2017 في الفوز على أي مقعد في ولايته، بما في ذلك في بلديته الأصلية، مليانة. وهو عضو سابق في “النقابة الوطنية المستقلة لمستخدمي الإدارة العمومية -سناباب” . كان لمرتين عضوا في الأمانة الوطنية وقد أصبح عضو في الحزب في عام 2006.

على الرغم من حصيلة زهيدة، قامت القيادة الجديدة بتثبيته في منصبه. فمن الواضح أن الهيئة الرئاسية قد أدمجت السكرتير الأول في ترتيباتها الرامية إلى  السيطرة الكاملة على الحزب وإعادة توجيه خطه السياسي.

وتمثل التغطية الاعلامية الواسعة وغير المعتادة للصحافة “المستقلة” (1) التي يتمتع بها السكرتير الأول مؤشرا بليغا عن دعم أجهزة البوليس السياسي. فلم يسبق أبدا أن تحظى نشاطات الحزب بمثل هذا المتابعة الاعلامية، ولم يسبق لمسؤول في الحزب أن يحظى  بمثل هذه المعاملة. يبدوجليا أن مصالح المخابرات قد تمكنت من وضع اليد على السمكة  التي طالما حلمت بها منذ زمن طويل …

يتبع…

بقلم
 رفيق لبجاوي *
*- صحافي مستقل، الجزائر

(1 بخصوص هذه المعالجة الإعلامية ، راجع : https://news.google.com/stories/CAAqSQgKIkNDQklTTERvSmMzUnZjbmt0TXpZd1NoOGFIV1JyWDFaQ01ISXRhMnRMTXpseVRWaG5Wa3RFUlVOSlZrZ3dRV1pOS0FBUAE?q=mohamed+hadj+djilani&lr=French&sa=X&ved=0ahUKEwjhl8PR7pncAhVFbRQKHbHFA-oQqgIILTAA&hl=fr&gl=FR&ceid=FR:fr

 

 

 

مقالات ذات صلة

إغلاق