الأرشيفثقافات

قراءة في رواية “هجرة حارس الحظيرة”..أو أحلام تحاول العبور !

يقول كافكا: “الكتابة عبارة عن انفتاح جرح ما .. نصوص لا تشبهك، وأخرى تعريك بالكامل من ابتسامتك، من أكاذيبك المنمقة بالأمل كأن  تقول أنّ كل شيء على ما يرام حتى تصدم بنص يشبه جرحك، فتقرأ دون مقاومة، ذلك أننا لا يمكن  أن نتخلص  من سطوة الأحداث وتسلسل الواقع في وجداننا . أما الروائي السعودي محمد علوان الفائز بجائزة البوكر العالمية  لهذا  العام فيقول ” أن الكاتب الذي يوحّد بين أقداره و أقدار قرائه هو كاتب يجيد الكتابة” .

         تظهر قدرة الكاتب الإبداعية في جعل نصه  لا مجرد تراص للجمل، إنّما روحا يتقمصها  القارئ,يتفاعل بدرجة عالية مع أحداثها، يلبس أدوار شخصوها، يتحرك وفق آلية الزّمن التي وضعها الكاتب مسبقا،  يسافر من خلالها فيربط الأحداث وفق إحداثية الكاتب وإحداثيته  الشخصية, حتى يعتقد أنه  جزء من عملية الكتاب. ينجح الكاتب  حين يتمكن من إيقاظ  شغف القراءة، متحرشا  بذاكرة قارئه الذي ينخرط في عوالم من ابتكار الكاتب .

           هذا ما توفره رواية ” هجرة حارس الحظيرة” الصادرة  لهذا العام والمتوقع أن تكون موجودة في معرض الكتاب لطبعته22 لصاحبها سيدي عثمان نجم الدين  عن دار الأمة،  ويكون الكاتب بهذا العمل قد   دحض كل إدعاء حول الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية بأنها  نص بلا روح سقط في فخ الاستعارات على أنقاض الفكرة و الأحداث . عكس بعض الروايات التي كتبت بأقلام شابة يخرج إلينا نص نجم الدين متحررا  من عباءة الكاتبة الجزائرية صاحبة الثلاثية الشهيرة أحلام مستغانمي , فيستعمل  لغته الخاصة المنتقاة بعناية، فيخلق عوالم من الواقع الجزائري البسيط، يصور أحداثه بعبقرية تدفع القارئ لأن ينغمس  في روح النص كأنه شريك في بنائه.

           أمّا  عن بناء الرواية فتدور أحداثها في مكانين وزمانين منفصلين، يصور المكان الأول  الوضع  الجزائري  من خلال  بطل رئيسي  هو العياشي الشاب المثقف، خريج الجامعة الجزائرية بشهادة  في التاريخ، يعاني ورفيقاه سمير وكمال  من التهميش والحقرة والبطالة , وتتمركز الأحداث  كلها في قسنطينة أين تكون شوارعها و أزقتها وجسورها  شاهدة على خيبات وانكسارات أحلام شبان وجدوا أنفسهم أمام البطالة، لا خيار أمامهم إلأّ التأقلم مع البؤس أو مغادرة  الوطن بأي طريقة. يربط  نجم الدين أحداث الرواية في الجزء المتعلق  بقسنطينة ببراعة فيصور عوالمه  بقدرة  فائقة على خلق خيالات بالغة الجمال،  يصنع  من أحداث  بسيطة يعيشها الجزائري  البسيط نصا عظيما، يقارب  فيه الواقع  في جوانب عديدة تؤول  نهايته  كلها إلى  مآسي. 

            لو انطلقنا من العنوان “هجرة حارس الحظيرة” سيدرك  القارئ أنه أمام رواية تروي  تفصيلا قريبا جدا  من يومياته  , تصبح فيه  حظيرة السيارات  في الرواية غنيمة ومنصبا  مهما  لبطال  جزائري بشهادة جامعية يتقاسمها مع  شاب أخر لم يواصل تعليمه. ومن هنا تبدأ تشابكات  الرواية بتسلسل  متقن، كل حدث يؤدي إلى حدث أخر , يفتح  الروائي  بدهشة أكثر من نافدة على ذاكرته  الفردية  حين يروي بتفاصيل محكمة أيام طفولته  في الريف، فيصور جوانب حياة الريف ببراعة، ولا ينسى أن يفتح للقارئ نافذة على الذاكرة  الجماعية  عندما يفتح جرح  سنوات الإرهاب فيتحدث عن عبثية  الموت وكأنه  يعيد  طرح سؤال كل جزائري  لماذا قتلنا؟  ولماذا كلنا نقتل؟ في مشهد مؤلم  في الحياة  يصبح فيه عمود إنارة شاهدا  على القتل في زمن  آلة الموت الوحشي، عمود كهربائي تناوبت عليه الجثث تنكيلا،  وعبرة ليبقى السؤال لم كنا نقتل دون إجابة …

 تتزاحم الأحداث  في “قسمطينة” كما يسميها سكانها الأصليون، فيربط الروائي أحداث روايته بالأماكن والشوارع والجسور دون أن ينسى أن يقحم جزء من ثقافته التاريخية  والفنية لتكون شواهدا  في نصه،  وتوثيقا فيه بجمالية عالية،  يعرض من خلالها ما تراكم في وجدانه وعقله من معرفة،  كما لا يغفل الروائي  نجم الدين أن يقحم  حياة العياشي العاطفية  فتبدو روايته كأنها سيرة ذاتية تروي تفاصيل  حياته  على لسان العياشي، الذي يستعمل الضمير “أنا” فيسلط الضوء على حبيبة  يتزوجها رفيقه إثر عودته   من فرنسا بعد أن فشل العياشي أن يرافقه  للجهة الأخرى من البحر المتوسط  عن طريق  قوارب الموت،  ضعفا  أمام توسلات  والدته  المريضة، غير أن المفارقة أن  والدته تموت لذات السبب   نتيجة لسوء الفهم  فبدى فيها  العياشي  المسؤول  الوحيدا أمام  موت أمه  حين اعتقدت أنه  اختار للمرة الثانية البحر ليهرب من واقع  بائس.

“يا شومي، رايح في البابور حراق ياكلك الحوت، أقسم أنك إذا لم تعد فلا أنت ابني ولا أنا أعرفك، أقسم أن نتبرأ منك أنا ووالدك، سننكرك إلى الأبد، هل ربيناك هكذا لتذهب وتتركنا؟ هل هذا جزاؤنا؟”.

و لأن قسنطينة هي  مركز الأحداث في  الجزء الأول  من الرواية  يعمد الروائي أن يربط سرديته بأماكن تكون لها رمزيتها في مجرى  حياة  العياشي،  كأن  يتذكر بيتهم بالسويقة  كلما قابلته الحياة بوجه  عبوس و أخلطت كل أوراقه   الذي تهاوى مما أجبر عائلته أن تبيت  في العراء  فيصف تهاوي المصائب  على  رأسه  فيقول:

 ” كأنني بالضبط ذلك البيت في السويقة الذي حضرته يتهاوى، أحس أن زلزال أكتوبر 1985 الذي نكب قسنطينة، وعشته في بطن أمي يعاد على مرأى مني، أخبرتني أمي، أنها قضت أسبوعا في العراء، وهي حامل بي في الشهر السابع، قالت لي أنها كانت مستعدة أن تموت لأحيا، وها قد ماتت حقًا لأحيا، قتلها خوفها على ولدها الذي ماتت وهي تعتقده عاقًا”

 يعرض  الكاتب بانوراما للأحداث بإحداثيات زمنية  ومكانية مختارة بما يخدم فكرة  النص فتكون الكدية أين تقع  حظيرة السيارات  هي  مركز الحدث الذي تتفرع منه  أحداث اخرى لن تكون إلا  سببا  في قلب حياة  العياشي  .

أجاد الكاتب حين فتح  أكثر من  حدث ، وأكثر من  جرح،  وأكثر من  ألم  عاشه ويعايشة الجزائري البسيط  في وطن  نذروه لينكل بمستقبل أبنائه .

 

     ينتقل الكاتب  سيد عثمان ببراعة  إلى  مكان أخر،  ليواصل بسلاسة غزل  خيوط روايته  يكون من خلالها قد منح للعياشي تجربة أخرى  بعد أن   ترك قسنطينة  إلى جنوب أفريقيا مهاجرا غير  شرعي بعد أن فقد  والدته  في مشهد  تراجيدي، تسارعت الأحداث بعدها ليجد  القارئ  نفسه  أمام شريط  أخر،  ومآسي  أخرى للعياشي في  عالم الجريمة والمخدرات والسجن  والملاحقات الأمنية ،  هاربا من واقع  جزائري،  خائفا  من محكمة عسكرية  بسبب العصيان بعد أن اتلف وثائقه خوفا  من إجباره على أداء واجب  الخدمة الوطنية  لمهاجر  بوثائق مزورة، لتنتهني الرواية بعودته  للجزائر بأعطاب جديدة  وذاكرة مزدحمة بالوجع .

  يعتبر هذا العمل  بمثابة شهادة موثقة , لواقع مرير  بتفاصيل صغيرة ومهمشة لكنها تصنع  أحداثا  عظيمة في مجرى الرواية،  تضع القارئ  وجها لوجه  مع دوائر غير منتهية من المحنة والأسى ,  عمد فيه الكاتب  الكتابة بلغة أدبية جميلة , وأسلوب  سردي  محكم، سيطر  من خلاله على مجريات  الأحداث  مستفزا  لعنصر  التشويق لدى القارئ , جاعلا منه مغامرا يعيش التفاصيل كأنه  محور أساسي  في  الرواية .

سماعلي كريمة

 

    

 

مقالات ذات صلة

إغلاق