الأرشيفثقافاتوطني

قلعة آث عباس : مملكة جبال خلف الكواليس

في شتاء سنة 1510 للميلاد رست أربع عشرة سفينة إسبانية بقيادة الكونت بطرس النفاري (بيدرو دي نافارو) في عرض بحر بجاية، وفي نيتها شيء واحد وهو الاستيلاء على هذه المدينة الساحلية كما فعلت مع مدن أخرى في سواحل المغرب الأوسط، وقد فُتِحت شهيتها للغزو بعد أن طردت آخر المسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة. كانت بجاية أنذاك إمارة حفصية مستقلة عن المملكة الأم في تونس، وكان أميرها (أو ملكها) عبد العزيز الحفصي في صراع من أجل النفوذ مع أخيه حاكم إمارة قسنطينة… هكذا استغل الإسبان هذا التفكك وألقوا بحمم مدافعهم على سكان المدينة المذعورين من هديرها، مما اضطر الأميرين عبد الرحمن والعباس ابني عبد العزيز إلى جمع ما تبقى لهم من أتباع وسمو ملكي ونقلوه إلى تلك الهضبة المنيعة : القلعة، ليؤسسا بها مملكة أخرى.


مملكة؟! لم نسمع بها من قبل!
ربما لم تزدحم صفحات التاريخ المكتوب بذكر حاضرة آث عباس التي قد لا تتوفرعلى قصور فخمة أو حصون تتحدى الزمن، وربما هي ليست حتى مدينة بالمعنى المشهور. ولكن قيمتها المعنوية تتأتى من الدور الذي لعبته في تلك الفترة الحساسة من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. لقد كانت مملكة خلفية عاصرت حدثين محوريين كبيرين : الاحتلال الاسباني والحماية العثمانية. ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون ويصدقه السطحيون، فقد أهمل ذكر هذه الإمارة التي يبدو أن أول عنصر خانها هو موقعها الجغرافي الذي يعتبر نعمة ونقمة في الوقت نفسه. نعمة لحصانته وقدرته على الدفاع عنها والحفاظ على كيانها المستقل، ونقمة لأنه نأى بها عن الحواضر الكبرى والأراضي الخصبة والموانئ المدرة للثروة. فالهضبة التي اختارها الأميران عبد الرحمن والعباس (والذي اشتق منه اسم القلعة) لتأسيس ملكهما هي قلعة طبيعية صنعتها التواءات وانكسارات جيويولوجية يتجاوز ارتفاعها ألف متر وتحيط بها الجروف من ثلاث جهات، ولا تملك إلا مدخلا واحدا من جهة الجنوب.
والمتجول في القلعة حاليا يشاهد بيوتها العتيقة المبنية على الطراز الذي بنيت به معظم قرى بلاد القبائل، ولكنه يلاحظ لمسة أندلسية في عمارتها خاصة في مساجدها وأبرزها الجامع الكبير العتيق، كما يلمس فيها شيئا من الزخم الحضاري الذي ميز بجاية القرون الوسطى، ويبدو أنها قد استفادت من انحطاط بجاية إذ تدفق إليها المهاجرون منها ومنهم طبقة متعلمة وحرفيون مهرة وموريسكيون ويهود متضلعون في الصناعة، بل وقد احتضنت القلعة أيضا منشقين أوربيين وفارين من بطش الإسبان والأتراك، بوصفها ملاذا طبيعيا، وهو الأمر نفسه الذي يكون قد حصل إذا عرفنا أن القلعة كانت أيضا ملاذا مؤقتا للأمراء الحماديين حين تحولهم من قلعة بني حماد إلى بجاية منذ عدة قرون…


البيبان أو أبواب الحديد : آث عباس تمارس سلطتها
تقع القلعة في قلب جبال البيبان (ونوغة قديما)، والذي اشتق اسمها من مضيق أبواب الحديد والذي يحمل بدوره دلالة على مجد هذه المملكة التي امتد نفوذها عبر المنطقة الواسعة من جبال البابور وتخوم ساحل بجاية إلى الصومام إلى سهول البرج والمسيلة إلى البيبان، هذا المضيق يمثل ممرا طبيعيا إجباريا لكل من يريد ربط الجزائر العاصمة بعاصمة الشرق قسنطينة. وقد وقف أمراء القلعة الند للند مع سلاطين إيالة الجزائر العثمانيين، ففرضوا عليهم غرامات باهضة مقابل السماح لهم بالمرور عبر هذا المضيق، وقد حاول هؤلاء كثيرا التخلص من هذه الشوكة التي تؤلم خاصرتهم، فدخلوا في حروب كر وفر طويلة مع القلعة، وفي هدنات وحتى تحالفات أيضا طيلة ما يقرب من ثلاثة قرون، ولكنهم لم يفلحوا في انتزاعها !
ولم يقارع آث عباس العثمانيين فحسب، بل كانت لهم صولات مع الإسبان، والفرنسيين، ومع منافسين آخرين أيضا، مثل شقيقتها الغريمة مملكة كوكو، التي تتقاسم معها النفوذ في بلاد القبائل.


مملكة كوكو؟! من أين تأتي بهذه الأسماء، من الرسوم المتحركة؟!
تأسست مملكة كوكو أو مملكة آث القاضي في الظروف نفسها التي تأسست فيها مملكة آث عباس، فقد كان مؤسسها أحمد أولقاضي سليل عائلة ذات صيت في القضاء لدى ملوك بجاية الحفصيين، وكان قد انسحب إلى قرية كوكو في جبال جرجرة وأسس هناك إمارة قارعت بدورها القوى المسيطرة في تلك الفترة، ووصلت قوة آث القاضي إلى درجة استيلائهم على الجزائر العاصمة لعدة سنوات ابتداء من سنة 1520. ودخلت في منافسة طويلة لتقاسم النفوذ مع القلعة…
مملكة، إمارة، اتحاد قبائل، سلطان، أمقران… نعوت مختلفة لواقع واحد
عندما نتأمل في سيرة حياة هذه المملكة التي اتخذت لنفسها مقاما في هذا المرتفع الصخري الداخلي، وحجزت لنفسها مكانا بين قوى كبرى سيطرت على البحار، سنفهم تلك المرحلة الانتقالية التي مرت بها بلاد المغرب من العصر الوسيط إلى العصر الحديث. وتشرح لنا الفقرة التالية من كتاب “قلعة بني عباس إبان القرن السادس عشر الميلادي” لمؤلفه “يوسف بنوجيت” المسار الذي سلكه الكيان السياسي للقلعة منذ ازدهارها حتى أفولها :
“نلاحظ فيما يتعلق بقلعة بني عباس، أنه برغم ان إشعاعها أظهرها كمملكة، إلا أن عبد العزيز (ابن العباس) هو الذي سيحمل لقب السلطان، أما العباس الذي كان المؤسس الفعلي للقلعة، فلم يكن له نصيب في ذلك. والأمر نفسه بالنسبة لأعقابه، وكذا بالنسبة لأحمد أمقران الذي خلف أخاه جلالة السلطان عبد العزيز سنة 1559، إذ لم يعرف سوى بـ “أمقران”، فالقلعة تخلت إذن عن نعوت الملك بعد خمسين سنة من تأسيسها. وستطغى التقاليد الخاصة بالبربر على نمط الحكم، إذ تغلبت السياسة التي فرضتها الروح الديمقراطية لـ “الجماعة” على النظام الأرستقراطي للحكم الحفصي الذي يمثل آخر رقعة في المغرب. يبدو أن الوضع كان كذلك، وبعد سنة 1624 التي شهدت وفاة سي الناصر، طغى نظام الحكم عن طريق الجْمَاعَة، ليتقلص نفوذ آل المقراني أمام تجاوزات بعض بايات قسنطينة الذين قادوا حملات العصيان”.


مدافع القلعة : اللغز الذي يشرح كل شيء
عند دخول الفرنسيين إلى القلعة في القرن التاسع عشر، عثروا بها على أربعة مدافع قديمة لم يعرفوا مصدرها، كان بعضها يحمل نقشا للشعار الملكي للملك الفرنسي لويس الرابع عشر. ويبدو أنها من الغنائم الوفيرة من المدافع والذخائر التي خلفها الفرنسيون أثناء إجلائهم من مدينة جيجل التي احتلوها لفترة قصيرة سنة 1664، والتي شارك آث عباس مع قبائل أخرى في تحريرها. أما بعضها الآخر، فلم يكن يحمل أية علامة. مع تسجيل بعض الكتاب الفرنسيين أن أحدها، حسب السكان المحليين، كان يحمل كتابة “صناعة عبد الله علج” ورموزا عبرية، والذي يدل على أنه صنع محليا من طرف بعض الأوربيين الفارين الذين اعتنقوا الإسلام ولجأوا إلى القلعة، وهذه فرضية لم يستبعدها البعض لكون القلعة عرفت صناعة مزدهرة للذخائر الحربية، دون ذكر الصناعات الحرفية الأخرى كصناعة البرانس على سبيل المثال والتي اشتهرت بجودتها في كامل البلاد ويقال إنها كانت تصدر حتى تونس… كما أن هناك فرضية أخرى تقول إن من المرجح أن هذه المدافع قد تكون تقدمة من الأتراك بعد تحالف آث عباس معهم في غزو تقرت وورقلة. واللغز الذي حير الفرنسيين هو كيفية وصول هذه القطع المدفعية إلى الموقع النائي والوعر للقلعة في غياب مسالك صالحة لذلك. ولا يعرف هل استقدمت هذه المدافع واستعملت فعلا للدفاع عن القلعة أم جيء بها فقط كذكرى لانتصار مجيد… ومهما يكن من أمر فإنها تعطينا فكرة عن المكانة والدور الذي لعبته هذه المملكة الجبلية…


المقراني : مازال المجد متواصلا
لم يتوقف مجد القلعة عند هذا الحد، فقد كانت لها جولة أخرى من إثبات الذات في وجه التاريخ. وكان الدور هذه المرة مع الاحتلال الفرنسي الذي ثار عليه أحد أحفاد الـ “أمقران” أحمد أمقران أخ السلطان عبد العزيز بن العباس، والذي سيحمل لقب الباشاغا الحاج محمد المقراني صاحب ثورة 1871 الشهيرة مع الشيخ أحداد، والتي امتد تأثيرها ليشمل معظم الشرق الجزائري والتي هددت الوجود الفرنسي تهديدا حقيقيا…
والزائر لقلعة آث عباس حاليا سَيُلْفي عند باحة جامع القلعة قبر الباشاغا الذي استشهد في 05 ماي 1871 قرب البويرة، وسَيُلْفي أيضا عند مدخل البلدة ورشة ضخمة لضريح المقراني الجديد الذي سيحتضنه في رقدته الأخيرة، هو الذي ورث مجد مملكة آث عباس وورث معها قدرها المحتوم في أن تكون دوما قلعة للكفاح من أجل الوجود والحفاظ على الكيان المستقل والخصوصية التي طبعت هذه الجبال عبر تاريخها الطويل.

وليد ساحلي

مقالات ذات صلة

إغلاق