آراء وتحاليلالأرشيفسياسةوطني

ناصر جابي :غادرت الجامعة الجزائرية..لأنها غير قابلة للإصلاح

نشر الأستاذ ناصر جابي على صفحته فايسبوك نقدا لاذعا  لواقع الجامعة الجزائرية جاء فيه:

لماذا غادرت الجامعة؟

اخترت العمل بالجامعة كأستاذ، بشكل واعي، مباشرة بعد تخرجي من الجامعة، رغم ما كان متوفر من فرص عمل أخرى أحسن بكثير، في قطاعات عديدة بالنسبة لجيلي على الأقل، في ذلك الوقت. اختيار الجامعة كان لعدة أسباب، منها الحرية التي تتوفر للأستاذ الجامعي، وتنوع نشاطاته المهنية بين التدريس والبحث. زيادة بالطبع على الحرية التي يوفرها العمل الجامعي بالنسبة، لمن ابتلي بسوسة النقدية والاهتمام بقضايا الشأن العام ورفض القولبة الفكرية والمهنية مثلي. كنت لسنوات قليلة مضت سعيدا بعملي كمدرس جامعي، رغم كل المنغصات التي بدأت تتراكم. فكان اسعد ايامي، يوم صدور كتاب لي او مقالة علمية او محاضرة ألقيها على طلبتي واخرج من القسم وانا حاسس انني قدمت درسا كنت راضي عنه. رضا اشعر به في عيون طلبتي وطالباتي وهم يستمعون الى ما أقدمه. لم اكتفي بالتدريس وحاولت ان أكون باحثا جديا، فالفت الكتب والمقالات وشاركت في الملتقيات وأجريت البحوث، سافرت والتقيت بزملاء وأصدقاء، من كل بقاع العالم، اعتز بصدقاتهم لحد اليوم.

بالطبع لم اسكت عن الأوضاع السيئة التي بدأت في البروز داخل الجامعة منذ سنوات، فانتميت لنقابة الأساتذة، عندما حانت فرص العمل النقابي التعددي. نظمت الاحتجاجات والاضرابات وشاركت فيها، من اجل الدفاع عن الجامعة وقيمها العلمية والأخلاقية، كما تصورتها وعديد من الزميلات والزملاء الجيدين، الذين بدأ عددهم يقل، مع الوقت للأسف. ت

حت وطأة التوظيف الجماهيري الذي بدأت الجامعة تعيشه منذ سنوات. فماذا حصل حتى أطالب بتقاعدي وأغادر الجامعة وأنا في سن لازلت فيها قادر على العطاء والعمل الفكري النوعي، بعد هذه التجربة الطويلة في التدريس والبحث. أنا الذي انطلقت في التدريس من أكثر من ثلاثين سنة وعمري اقل في بعض الأحيان، من عمر طلبتي وطالباتي (25 سنة)؟ ما حصل ويحصل في الجامعة الجزائرية هذه السنوات ودفعني الى المطالبة بمغادرتها، كما فعل ويفعل يوميا بعض الزملاء من الجيل الذي أنتمي اليه وحتى جيل أصغر.

يغادرون الجامعة وهم تحت وطأة الشعور بالفشل والعجز عن تغيير الأوضاع. ما يحصل في الجامعة كما عكسته الصحافة جزئيا ن لم يكن مفاجئا ولم يحصل هكذا كطفرة مباغتة. فقد ظهرت الكثير من مؤشراته منذ سنوات عديدة. مؤشرات ووقائع، لا يمكن العودة اليها كلها بالتفصيل هنا. لأنها معروفة، كما أن الحيز المخصص لهذه الورقة لا يسمح بسردها كلها. لهذا سأذهب الى نوع من الخلاصة في حديثي عن الأوضاع التي وصلتها الجامعة الجزائرية. أهم خلاصة توصلت لها ،بعد هذه التجربة الطويلة من التدريس والبحث، وهي خلاصة يشاركني فيها الكثير من الزملاء. المستمرين في العمل لحد الآن. ان الجامعة الجزائرية، لم تعد قابلة للإصلاح. فقد فات وقت إصلاحها وان أوضاعها ستزداد سوءا مع الوقت. فالاعتداء على الأساتذة والعنف داخل الحرم الجامعي على سبيل المثال، سيزداد ويتطور. لان شروطه الموضوعية والذاتية، متوفرة كلها في أغلبية المؤسسات ولو بدرجات متفاوتة. وأن المستوى التعليمي للطلبة والأساتذة، سيتجه نحو الأسفل بشكل أوضح، قابل للقياس، بالعين المجردة. لدرجة أننا لن نكون في حاجة الى مقارنات دولية لقياسه. مختلف اشكال الفساد، ستتطور لتأخذ احجام صناعية. الى اخر الصورة المعروفة حاليا والتي يشعر بها جزء مهم من الأسرة الجامعية التي لا تعرف ماذا تفعله للخروج من هذا المأزق.

أسرة جامعية تتلمس يوميا كل هذه الأوضاع، دون أن تكون قادرة على فعل جماعي منظم للقطيعة معه. تزداد حزنا كل يوم على ما آلت اليه أوضاعها في انتظار ان تغادر مثلي، كحل فردي ،بعد ان فشلت الحلول الجماعية . أوضاع الجامعة في الجزائر لم تعد قابلة للإصلاح، حتى اذا افترضنا فعلا، ان نية الإصلاح متوفرة لدى صاحب القرار. وهو ما ليس أكيد. لأن ما يمكن استشرافه من موقف السلطات العمومية من الجامعة يؤكد العكس تماما، فنية الإصلاح الفعلي غير متوفرة. لعدة أسباب كما توحي به الكثير من المعطيات. من بين هذه الأسباب أن التكلفة السياسية لإصلاح الجامعة الفعلي عالية جدا بالنسبة للنظام الحاكم الذي لا يملك أصلا نفسا اصلاحيا، لا في ميدان الجامعة ولا في ميادين أخرى.

باختصار وحتى لا أطيل كثيرا، اصلاح المنظومة التعليمة والجامعة، جزء منها، يتطلب مواجهة المجتمع بالحقائق المعروفة والتحديات التي يفرضها. الاصلاح، يعني مواجهة مصالح كثيرة واشكال فساد مستشري، عند كل الفئات المهنية المرتبطة بالعمل التربوي بدرجات متفاوتة، يتطلب على سبيل المثال مواجهة الاتحادات الطلابية والمنظمات النقابية التي تحول جزء كبير منها الى منتج للفساد بأشكال صناعية كما قلت. يتطلب مواجهة جزء كبير من اسرة التدريس والطلبة والفئات المهنية المكلفة بالتسيير اليومي الى اخر القائمة المعروفة. اصلاح يتطلب تغيير النظرة الاجتماعية السائدة التي تنظر بها العائلة الجزائرية للجامعة وما هو مطلوب منها ماديا واجتماعيا ان تقوم بها للتفاعل الإيجابي معها. كما يتطلب صمود في مواجهة الضغوط الكثيرة التي سيواجهها كل من يريد فعلا ان يصلح. خاصة وان نتائج الإصلاح لن تظهر على المدى القصير ولا حتى المتوسط ربما. وهو عيب لا يقبل به نظام سياسي، في حاجة الى نتائج سياسية ملموسة، تحسب له على المدى القصير. الإصلاح الذي يتطلب توافقا اجتماعيا، غير متوفر حاليا، حول ما هو مطلوب من الجامعة ان تؤديه وطنيا في مجتمع تعيش فيه النخب السياسية والفكرية انقسامية كبيرة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضايا الثقافية واللغوية المرتبطة بها. باختصار الإصلاح الفعلي يتطلب شروطا واستراتيجيات وعزم، غير متوفر حاليا، مما يعني ان بقاء الأوضاع على حالها هو الأكثر احتمالا، بل وقد تتجه نحو تدهور أكثر. تماما كما حصل للمؤسسة الصناعية العمومية التي تُركت لتموت، بدل إصلاحها في الوقت المناسب. وبيعها بعد ذلك بالدينار الرمزي. سياسة أقل تكلفة من الناحية السياسية وأكبر ربحا لطبقتنا الحاكمة الجديدة. 

مقالات ذات صلة

إغلاق