Mobilis Ad

ANEP PN2400002

آراء وتحاليلالأرشيفثقافات

لماذا نقرأ الأدب؟

لاشك أنكم أيضاً، كنتم تتمنون مثلي، أن يصابَ شيخ الكتاّب، بمرضٍ لعين، يقعده الفراش، كنت أسمع جدتي تدعو الله أن يصيب أعدائنا بالتيفيس ، رغم أني لا أعرف معنى ذلك المرض، إلا أني تمنيت طيلة ستة سنوات، أن يبلى به شيخ الكتاب، لتنتهي معاناتي مع النهوض الصباحي، ولا أضطر للخروج على الخامسة صباحاً مثل جندي، مدججاً بالقلم والدواة التي تنبعث منها رائحة القطران، لا أعرف لماذا؟ ربما ماحدثَ في اليوم الأول جعلني أكره بعمق، الإنتماء إلى تلك المدرسة، نحن نجلس على زربية، وسط ضجيج وزحمة خانقة، تقيأ أحد الزملاء، وشوه قشابيتي، بقي ذلك المنظر الفظيع في ذهني، وكلما استفقت صباحاً وجدتني أتمنى نومة أخرى أكثر طولا، تغنيني عن التفكير في منظر القيء والشيخ الجالس على الكنبة ملوحاً بسوطه مثل سجّان، قبل اجتياز (السيزيام)، وقع نظري على كتابٍ قديم وسط “كراتين” الكتب في البيت، لم يكن عليه غلاف ولا ورقة تشير إلى مؤلفه أو عنوانه، لازمني طيلة أسابيع، تحتَ وسادتي، وأحياناً في الحقل، خلفَ البقرات، لقد وجدت فيه ما كنت أبحث عنه طيلة ستة سنوات، المعنى لتمردي..غير أنها للأسف لم تكن مكتملة، أو هكذا خيل لي..

بعد إتمامي لهذه الرواية الكابوس(مغامرات الطفل المتمرد) بحثت عن أوراق نهايتها، لكن دون فائدة، ضاع جهدي بين الكراتين وصناديق الخشب المؤثثة في الغرفة السوداء، أول ما فعلته بعد استحالة إيجاد نهاية الرواية، ربما تلكَ اللحظة هي اللتي أنجبت الكثير من المشاكل في حياتي، لا أذكر بعدها أن شيئا جميلاً اكتمل..قرار توقفي النهائي عن الدراسة في الجامع، إنه أول قرار تاريخي أحسد عليه، أسبوع كامل وأنا ألفق الأكاذيب، وأكمل نومي على كرتونة في الكاراج، أو في غرفة الصناديق، أصبحت مثل قط متشرد، شعرت بميلاد أظافر يمكن أن أمزقَ بها الزيف الذي ظننت أني عشته خارج سيطرتي، كنت مولعا ببطل تلك الرواية، حد محاولة تقليده، في حركاته وتصرفاته، غير أنه من الصعب أن تصغي لإذاعة صوت العرب، التي تبث أغاني أم كلثوم في التسعينات،  نلت عذاباً لأجل ذلك القرار، لكني لم أعد مطلقاً إلى الجامع، كان الشيخ يحدجني بنظرات حاقدة كلما لمحني أعبر الطريق، كأنه فقدني فعلاً، لقد وجدت معنى لقراري في الرواية، معنى للتمرد، بعد سنة وجدتني الزائر الثقيل في مكتبة الإكمالية، أطبقت على المنفلوطي حتى أتممته، ثم انتقلت إلى جبران، حتى فصلته عن بعض، كنت أقرأ بحسب ماتمليه علي الفتاة التي تعمل في المكتبة، غير أني لم أجد شيئا في هذه الكتب، جبران كان قديساً أكثر من اللزوم ولا يتحدث طويلاً ولا يشتم، والمنفلوطي كان ثقيلاً مثل زعيم قبيلة، هكذا تخيلتهم وسئمت منهم منذ البداية، لكني غيرت رأيي في جبران يوم دخل المدير وانتزع من يدي روايته، ورماها فوق مكتب الفتاة وطردني، أحسست أن جبران مظلوم والشيء الذي جعل هذا المديريكرهه ــ الذي عاد من المعتقل ليخمد فينا سمومه وأحقاده على ضياع مجده ــ لاشك أنه شيء يستحق التضامن، بقيت في ذهني صورة ذلك القديس الجريح المنبوذ حتى شاهدت لوحاته واتضحت لي آلام غربته، لم تكن لدي نية مسبقة لقراءة كاتب معين، بل كانت لدي نية البحث عن حياة أخرى، لقد كانت الأرياف طاحنة، ومملة.

لم يكن هناكَ شيء في الشوارع، غير الغبار والسخط، وأطفال يدفعون قارورات الغاز اللتي تصدر موسيقى مرعبة، الريح كانت تتلوى مثل ألم المعدة، والجبال كانت تحفها غيمة بيضاء، يقال أنها من ترسل كل هذه السموم، الأشخاص هنا مولعون بالحديث عن الإرهاب، والمعارك الطاحنة التي تدور في الغابات، إنهم يرددون كلام النشرة، ويذهبون للعمل في الغابات، ويعودون وربما لايعودون لأيام، كنت أنتعل حذاءاً مطاطياّ ولا أجد الكرة لأركلها، وعندما أجد الكرة أقذف بها حافيا، كي لا يتمزق الحذاء، وللهرب من كل هذا كان علي الإنتهاء في المكتبة، لجلب كتاب آخر كان هذه المرة ابن المقفع، لكني اعدته في الغد، لأني لا أطيق القطط والبقر والكلاب، أصابتني التخمة من الرعي، يجب أن أقرأ شيئا عن مدينة بعيدة، يخرج أطفالها صباحاً مبتسمين، وجدت أحد أجزاء ألف ليلة وليلة، قضيت معه فترة المتوسط كلها، تبدو اللعبة أكثر نضجاً.

ياله من حظ جميل، وجدت في أحد الصناديق، عدة أعداد من جريدة السفير، قرأت فيها لدرويش ونزار، وجلبت دواوينهما، وشرعت بكتابة رسائل الحب…

لقد اكتسبَ تمردي ماهيته، ومناعته، وأصبح من الصعب التنازل عن القراءة، إستهلكت الكثير من الكتب، ولم أقل يوماً أن القراءة (غذاء الروح) أشعر أن هذه العبارات الجاهزة، تستنقص من قيمة القراءة، وتجعلها شيئا مملا وتافها، عرجت على رواية الدار الكبيرة، كان عمار أهم شيءٍ، ولم أكن أقرأ اسم محمد ديب على الغلاف، لا أعرف لم كنت أنجر خلفَ الأحداث مهملاً صاحبَ الرواية، الذي نفثَ فيها كل تلك الغرابة الجذابة، إنها براءة القراءة، وأعتقد أن هذا يلزمنا كثيراً للإطلاع أكثر على المحتوى، فبعد سنوات، إقتنيت ثلاثية أحلام مستغانمي، بفضل الجرائد التي تكتب باستمرار عنها، لكني سرعان ماغيرت رأيي، ووجدتني أبحث عن الكتب في الجزء المهمش من المكتبات، الكتب الجميلة تفقد أغلفتها سريعا، تفقد نهاياتها أيضاً، أوربما يرمي بها أحدهم في صندوق في الغرفة المظلمة.

منذ أيام وصلتني بعض الكثبان الروائية، التي نشرت مؤخراً، بعد إطلاعي على بعضها، تحسرت على ذائقة الناشر أولاً لأنه المسؤول المباشر عن أعمال داره، يعني هو مسؤول عن ذلك الفتى الذي يبحث عن مبرر لتمرده ويجد سخافة في طريقه، تحرف بوصلته، ثم لماذا يكتب هؤلاء؟ الكتابة ليست حكراً على أحد، عندما تكون مجرد هاوي، لكن عندما تقدم على خطوة النشر، أعتقد يجب أن تطرح هذا السؤال بعمق، ثم تنازلت عن الخوض فيه، على الأقل مؤقتا، لأنه دون قراءة لن تكون هناك ذائقة، ولهذا طرحت على نفسي أولاً السؤال ووجدت في حوزتي جواباً قديماً بعمر كتابات هؤلاء، (أقرأ لأجد مبرراً لتمردي ـ للثورة العارمة التي أحملها في داخلي) هذا قبل أن تصبح القراءة حرفة..

لعل أجمل من كتبَ عن هذه الحرفة هو الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل (1948) الذي يوصف بالرجل المكتبة وألفَ ثلاثة كتب(المكتبة في الليل ـ تاريخ القراءة ـ يوميات القراءة ) كرم بها هذه الحرفة التي ليست حكراً على أحد، فالكثير من الكتاب الفاشلين يمكنهم أن يصبحوا قراء جيدين، وكما أن الكاتب يجب أن يكونَ موهوباً ومشرطاً يشرح الأحداث، ويمنح للجرح فماً ليتحدث، على القاريء أن يكونَ حرفيا، ليسبر أغوار النصوص، في كتابه تاريخ القراءة الصادرة عن دار الساقي (2011) الكتاب الذي استغرق سبع سنوات ليرى النور، يتحدث ألبرتو عن تجربته الفريدة في القراءة، ليصفها أنها العذر الجميل للعزلة، وأسهبَ في الحديث عن علاقته منذ صباه، بالمكتبة والكتب، وامتدحَ لحظة انشغاله بالقراءة عن الإحتفال مع الأطفال في بوينس إيرس، كانَ ألبرتو يصدق كل ما قرأه خلال فترة صباه وشبابه، ومع تراكم قراءاته، اكتسبَ ذائقة قوية، مكنته من إعادت قراءة الأعمال التي مر بها، بطريقة اكثر عمقا مكنته من طرح الكثير من الأسئلة، وتأليف كتب عن ماهية القراءة، مستعينا بعكاز كافكا إقرأ الكتب التي توقظك ـ على الكتاب أن يكون بمثابة الفأس التي تحطم صخور الجليد بداخلنا، واحتفى بالكاتب الأرجنتيني الكفيف بورخيس الذي قرأه في فترة صباه، ورافقه طيلة حياته، قائلاً على القاريء أن يخوضَ في الكتب المحلية أولاً ليتعرفَ على ثقافته.

وجاء كتابه الثاني المكتبة في الليل الصادر عن دار المدى (2012)، رغبته الشديدة في مشاهدة عالم مثالي، يحول فيه الناس بيوتهم إلى مكتبات، فأبناؤه يقولون أنهم بحاجة إلى بطاقة دخول مكتبة عند عودتهم إلى البيت، لأن والدهم وضع قانوناً صارماً، محولاً معظم أجزاء بيته إلى رفوفٍ للكتب، يتحدث عن تلكَ السكينة الغرية، التي جعلته يشاهد الكون بطريقته، يروي كيفَ يعامل كتبه، ويضع كل كتابٍ في الرف المناسب، هذه العلاقة الحميمة التي نفتقدها الآن، بعد أن غزتنا الكتب الإلكترونية، التي قال عنها، هل فقد الرسم قيمته عندما اخترعت آلة التصوير؟، لايمكن الإستغناء عن الكتب الورقية ورائحتها، والعبارات التي كتبناها على الورقة الأولى.

وفي كتابه الثالث يوميات القراءة الصادر عن دار المدى (2013) أكمل تصوره عن القراءة الجادة، عن الحرفة، مستعيناً برغبته في الثالثة والخمسين، كتبَ هذه اليوميات، وهو يعيد قراءة الكتب التي تركت انطباعاً جيداً لديه، في كل مرة يصادف تعليقه على الكتاب، أو على بعض فقراته، متسائلاً هل يجب أن يكون اسم القاريء جنبَ اسم المؤلف؟ إن ألبرتو حول القراءة إلى فلسفة، ومنحها قوة تسحر كل من قرأ كتبه، ليجد نفسه مكرراً تجربة مانغويل.

وصلت والدة غارسيا ماركيز إلى بارانكيا، قادمة من القرية النائية التي تعيش فيها أسرته، دون أن تكون لديها أدنى فكرة، أين ستجد ابنها، ليساعدها على بيع البيت، سئلت هنا وهناك بين معارفهم، فأشاروا لها بأن تبحثَ عنه في مكتبة موندو ومن أخبرها بذلك حذرها: “كوني متيقظة لأنهم مجانين”، شقت طريقها بين مناضد الكتب المعروضة،ووقفت أمامه، تنظر إلى عينيه، بابتسامة ماكرة قبل أن تقول : أنا أمك..

بهذه القصة استهل ماركيز مذكراته (عشت لأروي) معبراً عن الشغفِ المجنون بالقراءة، والذي يجب أن يتحلى به أي كاتب.

أما نيتشة في كتابه هكذا تكلم أزرادشت فقد تحدثَ عن جدوى الذائقة، التي تقرب لنا الأشياء الجميل وقال: أنا لا أقرأ إلا ما كتبَ بالدم ..

 

هنري ميللر في مؤلفه الكتب في حياتي إتخذ طريقة أخرى للحديث عن الكتب والمؤلفين الذين أحبهم وراسلهم، سرد حياته المتصلة بهذه الكتب كأن يومياته وطموحاته متعلقة بهؤلاء، لدرجة أنك تبكي على واقعنا المؤسف، الذي تجد فيه كتاباً مكرسين، لم يتجاوز رصيد قراءاتهم الخمسين كتاباً..

دافع الأديب المغربي محمد شكري في كتابه غواية الشحرور الأبيض ـ الذي صدر عن منشورات الجمل (1998) ـ عن الأدب بشدّة، معتبراً كل المنادين بموتِ الأدب، قرّاء سطحيين، شاردين، حملوا الأدب مسؤوليات أكبر، معتبراً القراءة حرفة تحتاج لطقوس، وأن الأدب يساهم في البحث عن الحقيقة، ويشرح المرض، ولا يقدم العلاج، هو الذي هاجم في نفس الكتاب، بعض الروائيين، مثل نجيب محفوظ، الذي وصفه بأنه كاتب لايعرف غير الطريق من بيته إلى المسجد.

 

بعض الكتب ساهم الفيس بوك في انتشارها، وحصدت مبيعات خيالية في معرض الكتاب، لم يكن الأمر يحصل من قبل، وهذا يدل على عدم اتزان سياسة الإشهار للكتب في السابق، وغياب الحلقة بين الكاتب والقاريء، لا أحد ينفي أن الصحف تقدم الكتب حسبَ علاقاتهم، والتلفزة أيضاً، وتغييب جبان لعناوين راقية، والفيس بوك فرضَ على الصحافة منطقاً آخر، السعي خلفَ الكتب التي حققت الرواج، خارج خرائطهم، الآن مفروض على كل كاتب القيام بإشهار كتابه، والمطلوب من دور النشر خلق فضاءات ومسابقات تجعلها في الواجهة، كل هذا لجلب اهتمام القاريء، وتوزيع كتبها على جميع مكتبات البلد، والخروج من بكائيات القراءة في احتفال التي تنهب سنويا، وبكائيات المقروئية التي يعاني منها العالم الثالث، في حين المواطن الأمريكي يقرأ خمسين صفحة يوميا، كل هذا هراء، لو دعمت أسعار الكتب، وأقيمت فضاءات ومسابقات موازية، ووزعت الكتب بشكل واسع، وخصصت الصحف صفحات ثقافية او ملاحق للحديث عن الكتب الجديدة، في بلد لايملك مجلة ثقافية واحدة، باستثناء مجلات إلكترونية تحاول دفع الثقافة إلى الأمام (نفحة)، الدولة بسكوتها عن هذا الموضوع، تريد شعباً لايثور على الرداءة.

ما أريد أن أقوله لأصحاب هذه الكثبان التي لن أحرقها طبعاً، الإستفادة من تجربة الصين التي أغلقت على نفسها خمسين سنة، ثم انبجست على العالم، حتى بسلعها المقلدة، أن يغلقوا على أنفسهم خمس سنوات فقط، للقراءة، وليكتبوا بعدها، حتى وإن قلدوا كاتباً مميزا، سيفعلون ذلك بأسلوب جميل.

جلال حيدر

 

مقالات ذات صلة

إغلاق