آراء وتحاليلنقطة تفتيش

التاريخ والكراهية

صدر مؤخّرا للباحث والمؤرّخ الدكتور “رابح بلعيد” كتاب أخير بعنوان “الحركة الوطنية الجزائرية (1945- 1954)”، (دار بهاء الدين، قسنطينة، 2015)  وهو كتاب مُميّز لأن صاحبه ليس مجرد باحث معروف، بل أيضا أحد إطارات الحكومة المؤقتة (1958- 1961) وشغل مناصب في الهياكل السياسية للثورة، كما أنه آخر كتبه لأنه توفّي أيام قليلة قبل صدوره، وهو في هذا الكتاب يدافع بضراوة عن “مصّالي الحاج” والنظرة المصالية إلى درجة التقديس، ومناصبة العداء والكراهية لجميع خصومه.

الكتاب ورغم اعتماده كليّا على كتاب المؤرّخ الفرنسي، (شارل أندريه جوليان)[1] إلا أنه يزخر بالمراجع والإحالات والشهادات، ويظل وثيقة مهمّة وشهادة حيّة على نظرة معيّنة لتاريخ الحركة الوطنية ويشهد على أزمة بنيوية وتصدّع تاريخي لا يزال يعصف بالتعايش في المجتمع الجزائري لحد الآن.

ينطلق المؤرّخ المصّالي في بناء اطروحته من أحداث 8 ماي 1945 الدامية، وردود الفعل السياسية للحركة الوطنية على الأحداث، حيث يدين بكل الوسائل رد فعل “فرحات عبّاس” وحزبه “الاتحاد من أجل الديمقراطية والبيان”، يقول بلعيد في هذا الصدد: “وغني عن القول أن المصاليين لم يكونوا، مثل زعماء جمعية العلماء المسلمين، مستعدّين لتقبّل شعارات فرحات عبّاس  التي تبدو مهدئة في ظاهرها، بل لقد بدا لهم عباس الآن يرتدي نفس القناع السياسي المخادع الذي ارتداه زميله الأكبر، الدكتور بن جلّول.” (ص 38) فالكتاب لا يكتفي بذكر الوقائع فيترك للقارئ هامش التأويل والفهم والتصنيف بل يقحم نفسه في قراءة النوايا، وامتحان المشاعر الخفية وإسقاط مشاكل الحاضر على وقائع تاريخية غابرة، أكثر من ذلك يذهب المؤرّخ في طروحات جهوية واضحة لم يستطع التحكّم فيها حين راح يسخر من موقف فرحات عبّاس أمام “الجمعية الوطنية الفرنسية”، ويواصل اكتناه المشاعر بقوله: “ومن مقعده خاطب الزعيم “السطايفي” (من سطيف) لأول مرة زملاءه في الجمعية الوطنية، فتكلم بلهجة مضطربة وصوت متغيّر، وهو شاعر بالنظرات ترمقه من كل صوب.”(ص 45)

بعد تصفية الحساب مع رئيس الحكومة المؤقّتة (التي كان المؤّلف أحد إطاراتها في القاهرة، مكلفا بالقسم الأنجليزي) ينتقل بلعيد إلى تصفية حساب المصاليين مع ما سمّاه بـ “العشيرة البربرية” التي حمّلها كل انشقاقات (حزب الشعب) ووصفها بكل أشكال الخيانة على درب مصالي الحاج نفسه الذي لم يترد في تخوين دعاة الأمازيغية سنة 1949، بل إنه يأخذ على زعيمه تقبّلهم في الحزب لأول مرة حين يقول: “إن ما فعله في الواقع بتعاونه مع هؤلاء الزعماء البربر المشهورين مثل آيت أحمد حسين، ولد حمودة عمار، أوصديق عمر، واعلي بناي، الذين ظن خطأ أنهم وطنيون جزائريون حقيقيون، لم يكن سوى تعليق سيف ديموقليس فوق رأسه..” (ص 86) ويمضي بلعيد في تمجيد كل من يزيح الخصوم من طريق الزعيم، مثلما فعل مع حسين لحول (الأمين العام للحزب) ، وقبل أن ينقلب ضدّه بالتقريع بعد صفحات قليلة من الكتاب، حين وصفه قائلا: “وكان حسين لحول على ما يبدو أصلح رجل على رأس أمانة حركة انتصار الديمقراطية، لأنه ما إن شغل مركزه الجديد حتى شنّ حملة تطهير قاسية ضد العشيرة البربرية.”(ص 88)

بهذه التقنية البوليسية في كتابة التاريخ يواصل بلعيد بناء أطروحته، ففي كل مرّة كان يمنح شخصية ما بعض المجد المؤقّت طالما وافقت الرؤية الأحادية للزعيم ثمّ ينقلب ضدّها بالتخوين والمحو من الذاكرة، لقد فعل ذلك حتى مع رئيس جمعية العلماء المسلمين (البشير الإبراهيمي) الذي يتقاسم ومصّالي الإيديولوجيا وينافسه على عرش الزعامة، حيث علّق المؤرّخ على تزكية الإبراهيمي لـ “الحزب الشيوعي الجزائري” في الانتخابات سنة 1946 قائلا: “فقد سرّه أن يأمر أتباعه بإعطاء أصواتهم لأولئك الذين يفترض أنهم الأعداء الألدّاء للدين الإسلامي الذي كان يدّعي إنه حامل لوائه..”(ص 58) وهو أيضا ما فعله مع أعضاء “المنظمة الخاصة” التي انحدرت من حزب الشعب و”حركة الانتصار والحريات الديمقراطية”، وذلك في حادثة اقتحام مركز “بريد وهران” الشهيرة سنة 1949، حيث يصفهم مباشرة باللصوص. (ص 100) وقد وجدها فرصة لكي يصبّ جام كراهيته على منافس آخر في الزعامة وهو آيت أحمد وهنا يقول: “بعد انقضاء خمسة أشهر على عملية النهب المشهورة، أو بالأدق في شهر سبتمبر 1949 اعتزم آيت أحمد حسين أن يكشف عن وجهه الحقيقي، ذلك لأنه بدلا من أن يسير في الطريق الذي خططه بلوزداد، الذي أراد أن تكون المنظّمة الخاصّة طليعة الثورة الجزائرية المستقبلية، فضّل أن ينظم العناصر البربرية، ويشكّل منها مجموعة طائفية، ويقودها ضد الحزب وضد الوحدة الوطنية للشعب الجزائري.” (ص 100)

 إن كل شخصيات التاريخ وأبطاله، ضمن هذه الرؤية الشمولية للمؤرّخ، لا أهمّية لها إذن إلا من هي أدوات في بناء صورة الزعيم الأكبر، أو “أبي الأمّة” كما يصفه، وهو الوصف الذي يبقى يتكرر ويتردد طوال صفحات الكتاب. إن صورة الزعيم مصالي الحاج المتضخّمة في أطروحة بلعيد صارت تشبه صورة “الأخ الأكبر” في رواية جورج أورويل الشهيرة (1984) حيث كل شيء، وكل التاريخ يدور حول تشكيل هذه الصورة التي تطل على الجميع ومن كل مكان، بعبارته الشهيرة “الأخ الأكبر يراقبك”.. وبلعيد نفسه في هذا الكتاب لا يختلف عن أي موظّف في “وزارة الحقيقة” التي ليس لها من دور –في الرواية – إلا تزوير الحقائق كل يوم بما يخدم صورة الزعيم، يقول أحد هؤلاء الموظفين في الرواية، وهو يعذّب ويستنطق البطل: “..يجب عليك أن تكفّ عن التوهّم بأن الأجيال القادمة ستبرّئ ساحتك وتجعل منك شهيداً، إنهم لن يسمعوا عنك أبدا لأنك ستُزال تماما من سجل التاريخ، سنحيلك إلى غاز ثم نطلقك في الهواء، سنجعلك نسيا منسيا ولن يبقى منك شيء، لا اسما في سجل ولا أثر في ذاكرة حية، ستُمحى كل علاقة لك بالماضي كما بالمستقبل وستصبح كأنك لم تكن.”[2] وهذا بالضّبط ما يفعله بلعيد هنا حين يقتل هؤلاء الأبطال مرّة ثانية بمحوهم من سجلّ الذاكرة وجعلهم نسيا منسيا.

إن هذا الهوس بالزعامة والزعيم لدى المؤرّخ وزعيمه معا هو ما يفسّر تاريخ صاخب من الانقسامات والنزاعات داخل حزب/أحزاب مصّالي الحاج، ففي ظرف وجيز لا يتجاوز الثماني سنوات (1946-1954) انقسم حزب الشعب على نفسه، وانشقّت حركاتُ سياسية عنه أكثر من خمس مرّات: فمن انشقاق (حركة الانتصار والحريات الديمقراطية) ثم انفصال المنظّمة الخاصة، ثم انشقاق “الحركة البربرية” إلى أن انفصلت عنه “اللجنة الثورية للوحدة والعمل” التي فجّرت الثورة. وفي كلّ مرّة يضطّر المؤرّخ في أطروحته إلى تحميل المنشقين مسؤولية الأزمة المزمنة لحزب الشعب حتّى يحفظ للزعيم براءته وعصمته عن كل خطأ.

 

[1]Charles André Julien, L’Afrique du Nord en Marche, R. Julliard, Paris, 1952.

[2]جورج أورويل، 1984، المركز الثقافي العربي، ط 3، 2013، ص 300

مقالات ذات صلة

إغلاق