آراء وتحاليلنقطة تفتيش

تأملات في المقصلة

تأملات في المقصلة.. هو عنوان كتاب شهير لألبير كامو،(Réflexions sur la Guillotine) تذكّرته هنا وأنا أسمع وأقرأ مرة أخرى نقاشا جزائريا حول عقوبة الإعدام، ودعوة الكثير من الناشطين الحكومة الجزائرية لإعادة تفعيل العقوبة. نقاش عقيم صار يعود في كلّ مناسبة تتعلق بجريمة نكراء تهز الشعور الوطني، لهذا أودّ أن أوضّح هنا أبعاد المسألة في خمس نقاط أساسية بما أنه لم يعد للفكر من دور أصيل في عصرنا إلا مهمة التوضيح:

أولا: الإعدام ليس عقوبة أصلا، وبالعودة إلى أي تعريف لمفهوم العقوبة في القانون، فإن للعقوبة وظيفة قانونية واجتماعية تخصّ المجرم أو الجاني، أي إصلاحه وردعه عن تكرار فعلته، وليس التنكيل به أو قتله لكي يصبح عبرة لغيره، لهذا فإن إعدام أي مجرم يعني إخراجه أصلا من دائرة الوجود والحياة ولا يمكن بذلك أن نعطيه أية فرصة للإصلاح أو الاندماج مرة أخرى في المجتمع.

ثانيا: الإعدام في جوهره طقس ديني وهيكلي ينحدر من مؤسسة “الثأر” التي كانت أساس الأمن والبقاء في المجتمعات البدائية والقَبَلية القديمة، فبوجود “الثأر” كان الإنسان القديم يلجم نفسه عن قتل أي فرد لأن ذلك يترتب عنه موته أيضا، لهذا جاءت الآية القرآنية مفسّرة لذلك بالقول: “ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب” (البقرة: 179).

لكن التشريع الحديث للقانون الجنائي ينطلق من أسس فلسفية وإنسانية أخرى تختلف عن أسس المجتمعات البدائية. فالمجتمع الحديث يدين بكل وجوده وأمنه إلى وجود الدولة وليس القبيلة، والدولة مؤسسة مجرّدة من العواطف، خاصة عواطف الانتقام والثأر ، ولديها آليات أخرى لمنع الجريمة والقتل، ولهذا فإن احتفاظ الكثير من المجتمعات الحديثة بعقوبة الإعدام يدخل ضمن احتفاظها بتقاليد سابقة على الدولة.

ثالثا: تكمن المشكلة في عقوبة الإعدام في استحالة تصحيحها إذا ما حصل أي خطأ في التحقيق أو الإدانة، على مستوى الشرطة والمحكمة، ولهذا يتجنّب القضاة تحمّل مسؤولية الحكم بالإعدام على المجرمين، وفي معظم دساتير الدول يحُال قرار تنفيذ الإعدام إلى القاضي الأوّل للبلاد أي الرئيس أو الملك أو الأمير، وبهذا يخرج القرار من دائرة القضاء إلى دائرة السياسة، هذا إذا كان الحاكم أو الملك شرعيا، أمّا إذا كان فاقدا للشرعية السياسية فهذا يطرح مشكلة مضاعفة.

رابعا: في الجزائر لم تُنفّذ عقوبة الإعدام منذ سنة 1993، لأسباب كثيرة ومُعقّدة، أوّلها أن الحكومة وقّعت على الاتفاقية الأممية المناهضة للعقوبة وعليها الالتزام بذلك، كما أن ذلك تزامن مع انفجار الحرب الأهلية التي انقسم فيها المجتمع كلّه إلى ضحايا وجلاّدين، وتورّط الكثير من الإرهابيين في قتل الآلاف ارتكاب المجازر الشنيعة وبالتالي فإن أي تفعيل للعقوبة سيفتح البلد مشاكل وأسئلة وتحقيقات لا أول ولا آخر لها. (المشكلة أن بقايا هؤلاء هم أكثر من يطالب بتطبيق القصاص.)

خامسا: لقد جرّبت المجتمعات الإنسانية، قديما وحديثا، كل طرق الإعدام، من الشّنق إلى الخوزقة، ومن الرمي بالرصاص إلى الخنق بالغاز أو الصدم الكهربائي أو المقصلة، كلّ ذلك ولا نعلم هل جرّب الإنسان كل هذه الأدوات للتخفيف من ألم القتل أم لمضاعفته والتشفّي في المعدوم؟ وهي مفارقة مرعبة، ففي الوقت الذي نزعم أننا نسعى نحو الإنسانية نسقط بغتة في البربرية. يقول مخترع المقصلة التي سُمّيت باسمه J. Guillotine “ما هيّ إلاّ لسعة خفيفة على العنق وينتهي كلّ شيء..”. وقدّ ردّ عليه ألبير كامو بأطروحة كاملة تفصّل وتسرد لنا العذابات والآلام التي تصاحب فعل الإعدام فحتى بعد انفصال الرأس عن الجسد يبقى هذا الأخير يتخبّط ويتحرك لمدة قد تصل الى يوم كامل، ويبقى الدماغ المفصول يرسل إشارات الألم إلى جسده لمدة لا يعلمها إلا هو…

مقالات ذات صلة

إغلاق