آراء وتحاليلنقطة تفتيش

استراتيجيات التعبئة وحرب العلامات

 ربما يتساءل الكثير عن المغزى من الطرق الجديدة للإرهاب الدولي والتي تعتمد أساسا على الضرب في مواقع متفرقة من العالم الغربي، واستهداف رموزه الدينية والسياحية والاقتصادية. فالمؤكّد أن الإرهاب لا يستهدف إسقاط الضحايا بقدر ما يستهدف الوقع الإعلامي لعملياته، مع رؤية دقيقة للرجع والأثر النفسي لدى الجماهير الغربية والمسلمة معا. فعندما يتم اغتيال راهب مسيحي، بما يحمله ذلك من رمزية يكون المستهدف هنا هو تقسيم الوعي إلى جبهات دينية، والإيهام أن هذه الحرب دينية في جوهرها، (صليبية بلغة داعش) وعندما تستهدف مدينة سياحية عالمية مثل نيس يكون المستهدف نمط الحياة الغربي والأوربي الذي يعتمد على التحرر في طريقة اللباس والأكل والجنس وغيرها، وبلغة داعش (العري، والتفسخ والانحلال). لِننتبه هنا أن تسمية الأشياء تلعبُ دورا جوهريا في صناعة الوعي أو تزييفه، إن التسمية فعل حُكم، سواء بالإدانة أو التبنّي. وإذا كان معظم المسلمين لا يشاركون الإرهاب في الفعل، فإنهم يشاركونه في تسمية الأشياء. وهو ما يحاول الإرهاب الاستثمار فيه، فالذي يقوم بمثل هذه العمليات يعلم جيدا ردة فعل الإعلام الغربي التي تأتي في معظمها مُستفزة لشعور المسلمين، وتخلط بين الإسلام الإرهاب انطلاقا من “الوعي المشترك” بين عموم المسلمين والمتطرفين منهم، ولكن الخلط يأتي أيضا من جهل الرأي العام الغربي بالإسلام. إن ردة الفعل المُهاجِمة للإسلام ككل والتي يصدّرها الإعلام الغربي في كل مرة تقع فيها عملية، تؤدي إلى رد فعل عكسي في اللاشعور الإسلامي وتجعله يتعاطف أكثر مع الإرهابيين بشكل شبه آلي، وهو المقصود الأساسي من وراء كل عملية. لا شكّ أن تنظيم داعش يعاني هذه الأيام من حصار خانق على كل الجهات، خاصة نقص المجندين الجدد والملتحقين الأجانب بالجهاد، ولهذا فإنه يلجأ إلى مثل هذه العمليات حتى يكسب تعاطف أكبر في العالم الإسلامي وهو ما من شأنه أن يستقطب مُجنّدين جدد. لهذا السبب أيضا، وبعد كل عملية، يتبنّى الساسة الرسميون خطاب التهدئة والدّعوة إلى التضامن بين الطوائف الدينية ووحدة الأمّة، خاصّة في فرنسا، التي فشل فيها المجتمع فشلا ذريعا في تحقيق اندماج حقيقي بين الفرنسيين الأصليين وبين أبناء المهاجرين، من ذوي الغالبية المسلمة. فالساسة الفرنسيون يعرفون أن المستهدف من هذه الحرب هو إثارة هؤلاء الشباب الضائعين في الضواحي وتأليبهم ضد المجتمع الفرنسي الذي لفظهم، لهذا يتبنون خطابا احتوائيا حتى أنهم يتكلّمون الآن عن إسلام فرنسي، أي إسلام جمهوري متسامح وتنويري يستعيد أسطورة إسلام قرطبة. لكنّ الآلة الإعلامية الضخمة التي تصنع كل الوعي في الغرب، تجدّف ضد خطاب السياسة ولا تزال تتكلم عن “الإسلام” (بمفهومه الاستشراقي) بدل الكلام عن الحدث، ولم تنتبه أنها واقعة في فخّ الخطاب الذي تريده داعش أن يسود. لم تعد الحرب تجري جيشين، إنما بين “الإرهاب” والإعلام، وكلاهما يغذّي الآخر، فالأوليعطي للثاني المواضيع والاحداث والمناسبات التي يعيش عليها، والثاني يضفي على الأول العالمية والشرعية بين المسلمين ويساهم في تعبئة الشعور بالكراهية بين الإسلام والغرب، الكراهية التي بدونها لا يمكن للإرهاب أن يوجد. البشرية الآن تعيش في عصر العلامة وتحت إمبراطورية العلامات والمُهين على العلامات هو المُهيمن، وبعبارة تودوروف: “المُسيطر على الخطاب هو المسيطر.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق