آراء وتحاليلنقطة تفتيش

الشمولية ومأزق الدولة الوطنية … بقلم سماعيل مهنانة

 تتشكّل النظرة الشمولية للعالم والحياة والآخر ضمن شخصية قاعدية، تتميز بثلاث خصائص سيكولوجية أساسية: النرجسية التي تُترجم سياسيا وثقافيا في حبّ الزعامة، والوسواس القهري الذي يتحوّل فكريا إلى إيمان راسخ بنظرية المؤامرة، واعتبارها أساسا لتفسير كل الأحداث والوقائع.

أما الثالثة فهي التعلّق المفرط بالأب/السلطة/الخطاب الذي يتحول إلى خضوع إيديولوجي للفكرة المُهيمنة التي تُرفع إلى درجة من التقديس تُعفيها من أي نقد أو مناقشة. لكنّ الشمولية ظاهرة تاريخية وثقافية مُعقّدة جدّا، يصعب القبض عليها في جذر سيكولوجي أو أنثروبولوجي واحد، وقد عبّر عنها القرآن بعمق في حديثه بلسان فرعون: “لا أريكم إلا ما أرى” (غافر 29).

إذّ كل المجتمعات الحضارية مرّت أو لا تزال تمرّ بها، وعانت ويلاتها. والشمولية مرض يصيب الثقافة في عمقها والمجتمع، ولهذا فهي تختلف عن الاستبداد الذي هو ظاهرة سياسية تمسّ نظام الحكم فقط، ففي الحضارة اليونانية القديمة وحتى الرومانية كانت دوما ثمّة أنظمة استبدادية لكن الثقافة والمجتمع لم تتعرضا للمصادرة والقمع وطمس المختلف، ويمكن التأريخ لأول نظام شمولي بظهور الكنيسة كنظام سياسي واجتماعي وديني في القرن الثالث ميلادي.

ولكي نفهم كيفية تغلغل أية شمولية دينية وثقافية يجب التأمّل جيدا في هذه اللحظة التاريخية التي تحوّلت فيها المسيحية من فرقة دينية هامشية ضعيفة ومضطهَدة ومُحتقَرة من طرف الوثنية الرومانية إلى “رؤية للعالم” اكتسحت كل العالم القديم وقوّضت كلّ أركانه وأنهت آخر حضاراته الكبيرة. إن السرّ في كل ذلك في تلك النظرة الشمولية للحياة والعالم والإنسانية والمصير التي استولت بها قلوب البشر في ذلك العصر.

في اعترافات القدّيس أوغسطين نقرأ شهادات عن الطريقة التي تغلغلت بها النظرة المسيحية للعالم القديم، حتى أن الشباب كانوا يُقْدمون على “إخصاء أنفسهم” حتى يقتلون كل غريزة أو رغبة أو شهوة تقوم حاجبا بينهم وبين اللّـه والتفرّغ لعبادته، والنتيجة هي أن تحوّلت الامبراطورية الرومانية رسميا الى المسيحية في عهد الامبراطور “قسطنطين” الذي فرضها بالقوّة مضطهدا بقية الوثنيين واليهود، حتى انهارت الحضارة الرومانية بأكملها. إن هذه الطريقة في تشكّل المسيحية على هامش ثقافة مهيمِنة لمجتمع ما، ثم التغلغل الى النفوس ثم الاستحواذ على السلطة، وتحولها الى حركة فاشية تفرض رؤيتها بالقوّة، قد تعمّر لقرون طويلة، كما حصل للكنيسة أو قد تنهار في ظرف سنوات كما حصل للنازية، هي نفسها الطريقة التي تتبعها كل الشموليات، كالنازية والشيوعية والقوميات الحديثة، وأيضا الحركات الإسلامية المعاصرة. أكثر من ذلك يمكن القول أن الشموليات تتناسل بعضها عن بعض في المجتمع الواحد، لأن البنية واحدة حتى ولو تغيّر المحتوى الإيديولوجي في كلّ مرّة.

لقد تشكّلت النازية على أنقاض قومية جرمانية لا تقل عنها شمولية، وهذه بدورها تنحدر من شمولية كنسية قروسطية، كما أن الحركة البلشفية التي استولت على الثورة الشيوعية الروسية تنحدر توا من قيصرية لا تقل عنها شمولية، وهكذا أيضا تنحدر شمولية الحركات التحررية للعالم الثالث من الشمولية الإمبريالية التي تناهضها، ومن الحركات الوطنية في العالم الإسلامي تنحدر الحركات الإسلامية. في الجزائر، ومنذ الحركة الوطنية السياسية، التي كانت منقسمة إلى تيارات إيديولوجية وأحزاب سياسية متعددة الرؤى والمشارب، تنبّهت “جبهة التحرير الوطني” التي ظهرت فجأة، إلى خطر التعدد الذي اعتبرته انقساما وفتنة ومؤامرة استعمارية على المبدأ الثوري للاستقلال، فألغته وقمعته بالقوّة.

لقد قمعت أتباع مصّالي الحاج بالقوة بداية الثورة، وأرغمت “الإصلاحيين” إلى الانضمام كما قضت على الحركة البربرية التي ظهرت سنة 1949، بإقناع بعض زعماءها بالانضمام واغتيال زعماء آخرين رفضوا الانضمام. إن هذه النظرة الأحادية هي ما يفسّر فيما بعد طريقة الاستيلاء على الحكم عشية الاستقلال، وطريقة الاستفراد به طوال زمن الاستقلال. لكنّ وطنية “جبهة التحرير الوطني” كانت وطنية بدائية مؤسسة على مبدأ العنف الثوري الّذي كان موضة المرحلة، وكانت ردّ فعل من نفس الفعل الذي هو عنف النظام الكولينيالي. ولهذا لم تستطع الاحتفاظ بمكاسب الثورة لمدة زمنية طويلة فسقطت تحت نفس المبدأ بعد ربع قرن من الاستقلال، وظهرت على أنقاضها، بل من أحشاءها حركة إسلامية أكثر شمولية وفاشية كانت قد أخذت وقتها في التغلغل في النفوس واكتساح الفراغ الثقافي الذي أنتجته النزعة الوطنية لنظام الاستقلال. إن الفشلَ كان ثقافيا في الأساس، فبالقضاء على كل الموروث الثقافي الفرنسي الذي لم يكن كلّه استعماريا، أي القضاء على التعدد اللغوي، والبنى التحتية للثقافة، وحرية الإبداع، وجد الإسلام السياسي، القادم من المشرق العرب، طالبا للجوء والحماية في جزائر الثورة، فراغا هائلا انتشر داخله كالنّار في الهشيم: “بالأمس كان مجهولا ومضطهدا، واليوم أصبح الإسلام السياسي ظاهرة كونية، يفكّر العالم ويحاول إعادة تشكيله بواسطة سلاحين يتحكّم فيهما جيّدا: الوعظ والترهيب.” يقول بوعلام صنصال. في كتاب (الحكم باسم الـلّه) إن هذا التشابه في الشّكل والبنية والاختلاف في المُحتوى الإيديولوجي، هو ما يرجّح الكفّة دائما لصالح الثابت البنيوي، فالشمولية كظاهرة عبارة عن استراتيجية، بصيرة في طريقة الانتشار، عمياء في محتوى ما تنشره، كمن ينشر العُمى ببصيرة نافذة، وهنا تكمن المفارقة، فمعظم الشموليات المعادية للديمقراطية تفوز بسهولة في أية انتخابات ديمقراطي.، في كتاب “الحكم باسم الـّله يصف صنصال هذه الاستراتيجية: “بشكل ملموس، حيثما حلّت الإسلاموية فإنها تقوم بتقديس الإقليم، ببناء مسجدِ مثلا، ما يجعل منه بالضرورة فضاء تابعا لدار الاسلام، وبذلك يتجذرن ويصبح بالنتيجة مُهيمنا فيدخل في صراعات مع الهويات، والمعتقدات والتقاليد المحليّة، وما إن يغدو ذلك الإقليم مُحتلا حتى يُعزل عن الخارج لكي يصبح منطلقا لغزو إقليم مُجاور وهكذا..” . في الجزائر يمكن القول أن ما انهزم فيه الاسلاميون بالحرب حصلوا عليه بالسّلم، فبموجب قانون “المصالحة الوطنية” تمّ اقتسام السلطة بينهم وبين النظام، حيث احتفظ النظام لنفسه بالسلطة السياسية، فيما استفردوا هم بالمجتمع وتمت أسلمته بشكل شمولي لا عودة فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق