الأرشيف
404 البيضاء – بقلم محمد السعيد
في صغري … هناك شيئان أصابانا بالرعب …. سقوط القذائف على الجبل القريب من قريتنا وتلك السيارة البيضاء اللون من نوع بيجو 404 عندما نراها مركونة في احدى زوايا ساحة القرية….
القذائف تعني الموت والدمار ….. أما البيجو الآتية من بلدة “البسباس” فكانت تعني بأن صاحبها “الطهّار ” متواجد في مكان ما داخل القرية……وهو يبحث عن الذكور المولودة حديثا من أجل ختانها … وكذلك عن الأطفال الذين. ولسبب ما.لم يتسنى لهم الخضوع لتلك العملية الإلزامية عندما كانوا رضعا ..
عند سقوط القذائف كنا نقفز إلى مخابئنا الآمنة. أما عند ظهور ذلك الرجل فقد كنا نتبعثر في الأزّقة…. وبسرعة البرق نتجه إلى ركام صخري قريب …. حيث كنا نبقى حتى يحل الظلام….. قبل أن نتسلل إلى الساحة لنطمئن بأن السيارة اختفت من هناك.
لم يكن ذلك الرجل ( الطهّار) قبيحا … بل كان قبيحا جدا … كان طويل القامة أسمر اللون….. يتميز بطول أنفه ومحفظته الجلدية البنية… حيث يضع عدة العمل: السكين والمقص وأجزاء من القطن وأشياء أخرى.
اذكر لحظة ” تطهيري “. … مددوني بقوة على فراش في وسط الغرفة…. جردوني من ثيابي وأنا ارتعش من الخوف…
جارنا عمي الطيب قال وهو يبتسم: شوف يا محمد الحمامة لي في السقف … وأنا ابحث عن تلك الحمامة شعرت بلسعة تبعها شي يشبه الم الاحتراق…وضعوا لي على أثرها قطنة صغيرة …. ثم ألبستني أمي رداءا ابيضا يشبه لباس معلم القران …
كنا نتناقل …. نحن الصبية…… وصف ذلك الألم الذي يصاحب تلك العملية…. حتى صار آباؤنا وأمهاتنا وعند عدم إصغائنا إليهم أو الاستهتار بالواجبات المدرسية يتوعدوننا بأن ” الطهّار ” سيعود إلى القرية لا محالة…… وبأنهم وفي المرة القادمة سيكلفونه بقطع ” حمامتنا ” إلى النصف…. وفي حال تكرار أخطائنا فإنها ستقطّع من الجذر…. وسنتحول إلى بنات…
عندما أوقف الطهّار زياراته إلى القرية بعد تعشيش الجيش الإسلامي في الجبل المتاخم لقريتنا … حل الخوف من القذائف مكان الخوف من سيارة البيجو البيضاء اللون…
تحول الخوف على ” حماماتنا ” إلى خوف على كل قطعة من جسدنا… إلى أن تعودنا على الخوف… صرنا نتسابق لجمع الشظايا ذات الأشكال الغريبة وجمعها: منها على شكل “راس” قط وثانية على شكل قلم وثالثة على شكل علبة سجائر وأخرى على شكل “راس” طائر…
صار الخوف جزءا من حياتنا…. حتى تعود علينا وتعودنا عليه… في إحدى جولات المعارك بين جيش النظام و الجيش الإسلامي للإنقاذ ..كنا فوق أركام الصخري نداعب ” حماماتنا ” بفخر … نكاية في الطهّار … استمرينا ولم نابه لشيء… انتظرنا حتى توقفت القذائف عن السقوط .. ثم ركضنا إلى مكان سقوطها قرب الجبل غير آبهين بالخطر .. لنبحث عن إشكال جديدة من الشظايا و نظمها إلى مجموعاتنا المتنوعة…
انتصرت رعشاتنا على رعشات الخوف… صار كل منا وغدا بريئا لطيفا من دون أن يقصد أو يشعر..
بقلم محمد السعيد