آراء وتحاليلهكذا أفكر

كيف يقتل التدين الأديان ؟ .. بقلم فضيل بوماله

ما دمت تعبد الله مقابل ما تطمع من حسناته فاعلم أنك لست مؤمنا ولا عابدا”  ألبرت آينشتاين (* )

 

أول ما طرحت هذه الفكرة-التساؤل كان في نقاش خاص مع الفيلسوف والمفكر العالمي المثير للجدل روجيه غاروري(1913-2012) ببيته في ضاحية باريس على ضفاف نهر لامارن نهاية 2002· وكان حينها في فترة نقاهة بعد جلطة دماغية أصابته للمرة الثانية غير أنها لم  تمنعه من الكتابة والتفكير. لقد بالغت في التردد عليه، رحمه الله، مستغلا ما كان يمنحني إياه من ود ومحبة. والحقيقة أنني كنت ،وقتئذ ، خائفا من أن يخطفه الموت وهو لم يكمل بعد بعض مشاريعه الفكرية الكبرى، تأليفا وترجمة بين باريس وقرطبة، خاصة كتابه الهام الذي عنونه “الإرهابي الغربي” وصدر لاحقا عن دار الأمة الجزائرية والقلم بفرنسا.

لقد ناقشت معه ذالك المؤلف مخطوطا، ثم وهو في طور الكتابة النهائية بالحاسوب التي اشرف عليها أحد الأخوة القادمين من أمريكا اللاتينية ليخدم “فيلسوفنا” حتى أقام معه. وبعد ذلك، حملني عبء القراءة والمراجعة وإيجاد ناشر له بالجزائر لأن “غارودي” كان محاصرا بفرنسا وممنوعا من النشر جراء جملة من المواقف الدينية والسياسية المتعلقة بالمحرقة وتاريخ أوروبا اليهودي المسيحي الحديث والمعاصر.

 حينما طرحت عليه سؤال “الدين Rgggggggggggeligion” بمعنى “الوحي” وأسئلة “المعتقدات Croyances ” و” التدين Religiosité من خلال تجربته الطويلة والمركبة، ابتسم وطلب مني الاقتراب منه أكثر في المجلس وأخبرني حينها أنه خصص للفكرة ذاتها أكثر من فصل في كتابه راجع من خلالها رحلاته الدينية والفلسفية لآكثر من سبعين عاما.

 لقد تقاطعت فكرتي عن “التدين” وعلاقته بالأديان أو صدامه معها مع فكرته التأسيسية في بحثه حول مناهضة العقائد للإيمان والتدين للأديان. أما مناقشتي فكانت انطلاقا من قراءة انثروبو نفسية ـ اجتماعية للتدين عموما وطب نفسية للتدين العنيف خصوصا، غير أن مقاربته المنهجية العميقة فانطلقت من التاريخ الديني للإنسانية ومن علم مقارنة الأديان بالذات (التوحيدية الموحاة كاليهودية والمسيحية والإسلام أو الفلسفات الاجتماعية كالكونفوشيوسية والبوذية والطاوية والمناوية والوضعية والماركسية،الخ)

يعتبر غارودي  أن الإنسان كائن متدين بالطبع وبالاحتكاك مع الطبيعة، أما التاريخ فهو فضاؤه الخصب للبحث في طبيعة وشكل التدين من جهة وفي المصدر والاتجاه الذي ينطلق منه ذلك التدين، أي دراسة الدين كمصدر وتمثلات المتدين له كذاكرة وموروث ووعي وسلوك·

وقد ختمناها بقراءة في الخصائص الفلسفية والدينية لإدارة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية ·

وللأمانة التاريخية والعلمية، فإنه لو لم تحدث انفجارات الحادي عشر من سبتمبر ,2001 ما كان روجيه غارودي ـ على لسانه ـ يعنون كتابه المشار إليه بـ “الإرهابي الغربي”. فقد كان يعتقد حينها ـ أن مثلثا أمريكيا صهيونيا صناعيا ، مرجعيته الفلسفية تعود لبرنار لويس وصموئيل هنتينغتون في دراسة الطوائف الدينية وصدام الحضارات والثقافات ومن ثم الأديان،هو الذي دبر وخطط لتلك الأحداث ونفذها بأيدي شبكات هو صانعها منذ البداية· وقد لعب التدين الجماعاتي المنظم والممول من دول قائمة بذاتها (المسيحي الصهيوني من جهة والإسلامي من جهة أخرى) دورا حاسما فيما جرى ·

إن التدين بوصفه حالة نفسية حائرة بين الخوف والرموز والمجهول وتعقيدات الواقع و مستوى من الإدراك والفهم والسلوك حينما يتحول إلى “عقيدة” تمتزج فيها المرجعيات الروحية الأصيلة والموضوعة، علاوة على التراثات المتراكمة والأعراف المتفق عليها، يختلط في شكله وتمظهراته مع جوهر الدين بل ويحل محله في غالب الأحيان. وهنا يصبح التدين إيديولوجيا تعكس وتكرس “ذهنيات” بآليات وادوات لشرعنة سلوكاتها واتجاهاتها تتحدث مباشرة باسم “الله” و تخوصص “الدين” وتجعل منه نظاما إقطاعيا وسلطة ردعية مقدسة. إن التدين لا يكتفي بذاته لذاته محصورا في فضاء والأنسنة” وإنما يتعداه ،خاصة إن كان يملك وسائل العنف والمال، إلى شكل جديد من “الألوهية” و”الوصاية” باسم “السماء” و”الخير والشر” والجنة والنار” و”الحلال والحرام”. وهنا يصبح “الدين” رهينة “التدين” والأيمان” سجين”المعتقدات” و”الله” على صورة الأنسان وليس العكس. وثمة يكمن الخطر الأكبر على والإيمان والدين ذاتهما· فتعدد القراءات والاجتهادات ليس مشكلة في حد ذاته، إنما المشكلة أن تتحول قراءة ما إلى أقنوم يفرض نفسه على أنه هو الدين عينه أو لسان حاله المطلق ·

والأقنوم أو الدوغما كيان فكري مغلق يرفض التفكير والنقد·· فهو نسق كلاني شمولي إقصائي وتكفيري لغيره من الأنساق والأنماط والرؤى· ولذلك يولد العنف انطلاقا من اعتقاده في شرعيته الدينية· والغريب من الناحية المعرفية والروحية أن الأديان مفتوحة ومتسامحة بينما أنماط التدين كلها المتولدة عنها احتكارية وتصنيفية· كما أن الأديان السماوية جميعها تشترك فيما بينها في الكليات ومحورها الإنسان غير أن الممارسة التاريخية للتدين لم تصنع فقط الاختلافات والخلافات إنما فجرت حروبا أهلية وحملات استعمارية وجرائم حرب وتصفيات عرقية أو جنسية أو لسانية· فأبشع ما في الإنسان نزوعه للدم والحرب وقتل الآخر خاصة إذا ما كان ذلك باسم الرب أو جيوفا أو يافي أو إيلوهيم أو الله أو البراهمان  أو تحت أي مسمى آخر ·

وعليه، يجب أن نصحح قراءتنا للتاريخ المرتبط بالأديان ونعتبر أن الحروب الدينية التي أتت على الأخضر واليابس إنما كانت حروب التدين بما في ذلك النزاعات الأهلية ضمن الدين الواحد كما حدث في المسيحية أو الإسلام· فالحرب ليست إذا حرب أديان كما أن الصراع ليس كذلك أيضا !

إن البشرية ما ظلت تخلط بين الدين والتدين، ستعطي دائما الغطاء الإيديولوجي لكل الملل والنحل والجماعات كي تفرض قيمها ورؤيتها للكون على الآخرين، ومن هذا المنطلق لا يقتل التدين الأديان فحسب إنما الإنسان ومستقبله ولا يمكنه أبدا من الاستقرار والبناء الحضاري ·

وعليه، فصراع الدين عمليا ليس مع الوثنية أو الإلحاد أو العلمانية كصيغة للتعايش السياسي في فضاء مشترك، إنما مع التدين والمتدينين المتطرفين الغلاة قبل كل شيء·  وذلك التدين هو الذي يحول بين الإنسان والأديان تماما كما تحول طبقات الأرض المتراكمة جيوفيزيائيا بعضها فوق بعض دون معرفتنا بكنهها وجوهرها.

والحق الحق أنه حينما أقرأ أو أسمع عن “صراع الحضارات” أو “حوار الأديان” إنما أنظر مباشرة إلى العقائد الفكرية السياسية والاقتصادية من وراء ذلك ولا أنظر أبدا إلى طبيعة العلاقة بين اليهودية والمسيحية والإسلام أو الكونفوشيوسية والإسلام أو البوذية والنصرانية أو المانوية واليهودية (مع اعتبار الفرق بين الديانات التوحيدية والاجتماعية أو الفلسفات)· ففكرة تكليف الرب لجورج بوش الابن باحتلال العراق ليس رسالة من السماء تتضمن الديمقراطية وطرق استغلال النفط نجد نصها أو روحها في الإنجيل إنما هي وحي من بنات مخططات المحافظين الجدد ذوي “التدين” المسيحي الصهيوني· كما أن منهج أسامة بن لادن ليس نصا قرآنيا إنما تدينا له أصوله الوهابية ومفاصله المتعددة الأوجه ·

وآخر مثال يمكن اعتماده للتدليل على ما ذهبنا إليه خلفيات ما كان صرح به البابا بينديكتوس السادس عشر في محاضرته أمام طلبة جامعة راتيسبون بألمانيا سنة 2006 .فليس دينه المسيحي الذي تحدث إنما تدينه هو وقراءته هو ـ وهي ضعيفة وموجهة ـ للقرآن والتاريخ الإسلامي وقد أقحم تلك الفقرات إقحاما نقلا عن الكتاب المحاورة الذي أصدره قبل ذلك بقليل البروفيسور خوري· وكأنه أراد بذلك أن يبرر بالإسلام حقيقة ما آل إليه الغرب وكنيسته ·

فالكلام إسقاط لتناقضات وصراعات الكنيسة (كتدين) مع العلم علاوة على الحروب التي عرفتها الجغرافيا الثقافية المسيحية جراء التصارع بين الطوائف الدينية أو بينها والأنظمة الملكية في القرون الوسطى على الإسلام والقرآن في معادلتي العلم والاجتهاد والجهاد، ولا حاجة لأحد فينا أن يثبت الأصول العقلانية الإسلامية للغرب الحديث في عصري النهضة والأنوار عكس ما يذهب إليه تماما من حيث الخطية الممتدة من غرب اليوم إلى الحضارة اليونانية · والمر نفسه ينطبق على تأثير الحضارات الشرقية في تشكل وتطور الحضارة الإسلامية تاريخيا.

لقد كانت، باعتقادي، فرصة لتطهير الذات من “إرث اليهود” الثقيل من جهة ودعوة ضمنية لحوار مسيحي ـ غربي من جهة أخرى خاصة وأن الفلسفة الغربية قتلت “رب الكنيسة” كما قتلت الكنيسة  قبل ذلك الإنسان ·

إن التدين، أيا كان شكله وخصوصا خارج سياقاته الإيمانية الروحية، إذا ما أغفل إنسانية الإنسان وتحقيق المقاصد من الخلق، قتل الأديان والروح والعقل وفتح آفاقا جديدة للفتن والحروب.ففي حالة الإسلام مثلا، لعبت مظاهر “التدين” القدري والطرقي دور “المعطل” لديناميكية حضارية دامت قرونا. وأخطر من ذلك، فقد صار ذلك “التدين” بمرجعياته وولاءاته المختلفة يحجب عن العالم الفلسفة الحقيقية للدين الإسلامي ومنعه من الإسهام المباشر في الحضارة الإنسانية على مدى القرون الستة الخيرة. وحتى لحظات النهضة والإقلاع اصطدمت بماضوية هدامة داخل الجغرافيا الثقافية الإسلامية من جهة و بتحديات التحديث والحداثة والاستعمار الغربي من جهة أخرى. وعليه،كان الفشل عامل تقوية للتدين كرد فعل عنيف ينتفض على الواقع ويبحث عن الخلاص الأخروي. تلكم صورتان مقيتتان نسوقهما عن الإسلام داخليا وخارجيا. فلا حديث عنه إلا حديث “الإرهاب” و”الجماعات” و”الجماعات المضادة”.  ما أحوج الإسلام اليوم الى “تحرير” من “مسلميه” بالتدين وما أحوجه أيضا “لأنوار حقيقية” تصدر عنه بلغة العقل والمعارف والقيم والأنسنة والتسامح والتعايش في حضارة القرن الواحد والعشرين.

مشكلات التدين تمس كل الأديان. ومن ثم، فالإنسانية بكل مصادرها الروحية بحاجة لتحرير الأديان من كل أنماط التدين وتحرير الوحي من التاريخ والعصبيات الميتة القاتلة.

فضيل بومـــاله

___________

Jammer,Max, Einstein and Religion, Princeton University Press,1999,P 149.( (*

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
    المقال رائع جدا يا استاذ
    ارجوا ان تراجع حسابك على الفايسبوك فقد ارسلت لك مجموعة مقالات خاصة بهذا الموضوع على الخاص

  2. الدين للأسف الشديد رهينة رجال دين إما نفعيون أو رجعيون و أيضا تراث ثقافي بالي تقليدي… لأنه عندما يكون الدين في هذه الحالة لا يستطيع تحرير الإنسان لأنه هو اصلا يحتاج الى تحرير ….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق