آراء وتحاليلبهدوء

عن حرّية التفكير بقلم أميرة بوراوي

لا يمكن لحرية التفكير أن تسقط من السماء في ثقافة محكومة سلَفا بالكثير من العوائق، إنها نتيجة لعمل واجتهاد واشتغال عسير على الذات، حرية التفكير هي أولا تحرّر تدريجي من التبعية الفكرية العمياء للشيوخ والوعّاظ والوصاية العقلية التي تُمارس على العقول منذ قرون. في الجزائر ، ومنذ الاستقلال تمّ اختراع طريقة معينة في التفكير، أحادية وواحدة، مجموعة جاهزة من اليقينيات، تمّ بناءها ومراكمتها ونقلها من جيل إلى آخر ومن طبقة إلى أخرى، ومن شريحة إلى أخرى. لقد فرض علينا النظام مجموعة من اليقينيات كحقيقة راسخة وتلّقينها بصدر رحب دون أن نضعها موضع تساؤل، بل أننا نضع كل من يعارضها موضع شكّ وريبة.
إن حقيقة ما، تحمل حجّتها معها لا تخشى أية رأي مخالف، ولا تحتاج إلى أية حماية خارج نظام الحقيقة التي تستند إليه، إنها حقيقة على استعداد لتقبّل أية نقد عقلاني، وتفتح معه دروب النقاش على كل الممكنات، إن الحقيقة بهذا تحمل معها الديمقراطية والعدالة في طيّانها ولا تحتاج إلى أي تعسّف من أجل حمايتها. لكن نظامنا قالم منذ البدء على حماية الأكاذيب بأسلحة أخرى. ولكننا نح<ن، جيل اليوم، وللأسف نجد أنفسنا ننساق بسهولة بالغة وراء الدفاع عن حجج الأكاذيب بكل ما أوتينا من قوّة، كأنّها حقائق، لأنّ ما تمّ نزعه منا ليس فقط الحقيقة، ولكن أيضا التفكير الحرّ الذي يستطيع اكتشاف ومعرفة حقيقة المرحلة التي نعيشها، لأن حقيقة الأمس ليست بالضرورة هي حقيقة اليوم.
يستطيع أي نظام أن يكذب على شعبه لكنه لا يستطيع أن يكذب على نفسه، فمذ البدء كان الزمرة الحاكمة تعرف جيدا أنها غير شرعية، وأنها ليست في مستوى تأسيس دولة بحجم الجزائر، التاريخي والجغرافي، ولهذا لجأت منذ البدء إلى تعويض ذلك العجز والعاهة السياسية بالأكاذيب حول الهوية والدّين والتاريخ. بمصادرته لهذه العناصر الثلاثة للوعي الوطني راحت تتلاعب بها بشكل أعمى، حتى فقدت القدرة في التحكم فيها. فحين نستغلّ الشّيء بشكل مبالغ فيه، سرعان ما نستنفذه ونفد مصداقيتنا في الكلام عنه. وهذا ما وقع حين وجد النظام نفسه عاريا أما جماهير 1988، وجماهير 1992،  عاريا من الحقيقة ومن الأكاذيب، أمام جماهير منزوعة الحرية في التفكير.
إن أزمة النظام السياسي الآن في الجزائر مزدوجة: فمن جهة لم يعمل يوما على تكوين وعي جزائري بالمواطنة، ولم ينجح في بناء مواطن مستقلّ يدرك حقوقه وواجباته، ويعرف مفهوم الدولة وحدودها ويفرّق بينا المجال العام والمجال الخاص، مواطن يمكن أن تقوم عليه مؤسسات الدولة دون وصاية إيديولوجية. ومن جهة أخرى لم يعد في وسعه التحكم بكل وسائل التوجيه الإيديولوجي والوصاية الفكرية التي قام عليها والتي خدّر بها المجتمع لمدة نصف قرن، خاصة بعد ثورة الاتصالات المعاصرة والانفتاح التواصلي للأجيال الجديدة على العالم.
وكسلوك طبيعي لأي مجتمع حين يفقد ثقته في الوصاية الفكرية للسلطة، سرعان ما يتراجع نحو الخلف، نحو البنى الرجعية، وهو ما سمح بسهولة بالغة للتيارات الرجعية والظلامية بالاستيلاء على مناطق عجز السلطة واستغلالها استغلالا سياسيا لا يقلّ بشاعة عن استغلال السلطة. ولهذا فإن طريقنا الثالث الآن، هو تنمية الوعي الفردي بالمواطنة من حيث هي الطريقة الوحيدة للوجود السياسي في عصرنا، وبوصفه وعيا فرديا مستقلا عن كل وصاية فكرية، وخارج كل استغلال سياسي للفرد سواء باسم الهوية أو الدين أو التاريخ.

بقلم أميرة بوراوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق