ثقافاتوطني

“زوبعة في فنجان”

 يقول المهاتما غاندي:”كلما قام الشعب الهندي بالإتحاد ضد الاستعمار الإنجليزي يقوم الإنجليز بذبح بقرة ورميها بالطريق بين الهندوس والمسلمين لكي ينشغلوا بينهم بالصراع ويتركوا الإستعمار”، بمجرد قراءتي لهذه الكلمات، تمظهر أمامي المشهد الجزائري في الأونة الأخيرة والكم الهائل من القضايا التي تثار هنا وهناك، والحملات التي يطلقها الناشطون على مواقع التواصل الإجتماعي ، والتي تبدأ قوية ويكثر الجدل حولها لتتحول بعد أيام الى مجرد سؤال عابر، ويحل مكانها جدل آخر في موضوع آخر، وهكذا دواليك، مما دفع أحد المدونين للقول:”لقد أصبحنا مجرد ظاهرة كلامية، نتكلم كثيرا دون أن يقوم أي أحد منا بتجسيد ذلك الكلام على أرض الواقع”، جدالات عقيمة كثيرة مبنية على الإنفعالات الحينية وثقافة “الشعبوية” ومحاولة ركوب الموجة من الوهلة الأولى.

    أن تكون مواقع التواصل الإجتماعي منطلقا للمبادرات المجتمعية ،السياسية والثقافية، أمر يحدث في جميع دول العالم، فنحن في زمن غدت فيه هذه المواقع تلعب دور الجامع لمختلف الأراء التي قد تتبلور في شكل مشروع ما، لكن أن تولد المبادرات وتموت في نفس المواقع، فذاك هو موطن الخلل.فما هي مسببات ذلك؟

    الأزمة السياسية التي تعانيها الجزائر، ومعادلة التناقص الذي يصنعها الجزائري من خلال فقدانه للثقة في السلطة والمعارضة في آن واحد، وعزوفه عن ممارسة فعلية للعمل السياسي، فأغلب الجزائريين، خاصة فئة الشباب باعتبارها المحرك الرئيسي يبدون علانية إمتعاضهم من الحالة الكارثية التي وصلت إليها البلاد مع سلطة فقدت معالم الطريق، لكنهم من جهة أخرى يرفضون رفضا تاما الإنخراط في حراك فعلي يكون بمثابة رد الفعل عن ذلك الإمتعاض، قد يكون هذا أكبر إنتصار للسلطة، لقد نجحت في جعل السياسة رهينة جماعات تكرر نفسها مع كل مشهد، بهذا المنطق يبدي الجميع تحمسهم لأي مبادرة تطلق في العالم الإفتراضي، لكن عدد المتحمسين -فعليا- يقل تدريجيا مع أولى خطوات إخراجها من عوالم الأنترنت.

        لا يخفى على أحد أن مواقع التواصل الإجتماعي، والفايسبوك خاصة، سمحت أيضا برفع درجة الوعي النظري لدى الكثيرين، بحكم تعدد أراء وتوجهات مستعمليه، فلم يعد بالإمكان إخفاء الحقائق وإنكار الأحداث، لقد صارت كبسة زر كافية لينتقل الخبر من شخص لأخر، وليخرج لعامة الناس، فرصة ذهبية لم نستطع استغلالها من أجل جعل العالم الإفتراضي قاعدة خلفية للإنطلاق نحو تغيير الواقع، كما حدث في عديد دول العالم، ولعل أبرز النماذج، وأقربها زمانيا ومكانيا، ثورة 25 يناير بمصر، لقد كانت ثورة شباب الفايسبوك بامتياز، بل وذهب الكثيرون للقول أن “مارك زوكربرغ” هو من أسقط نظام حسني مبارك.

      في الجزائر، قبل أسابيع توالى إطلاق الحملات على مواقع التواصل الإجتماعي، من حملة” الفرنسية ليست رمزا للتقدم”، إلى حملة “ترميم منزل مالك بن نبي” مرورا بمبادرات وحملات أخرى، كلها أطلقها نشطاء ومدونون، دفعتهم مجموعة من المعطيات للقيام بذلك، والمتتبع لتلك الحملات يرى الكم الهائل من المنشورات والتعاليق الداعمة لها، لكن لا شيء تجسد من ذلك، وصارت عديد المبادرات مجرد شعارات، و”هاشتاغات” جعلت في طي النسيان.


قد تشكل المبادرات الخيرية التضامنية الإستثناء الوحيد، فتقريبا كلها لقت استجابة من طرف الشارع، نظرا لهدفها النبيل الذي لا جدال فيه،ونزوع الناس لتقديم المساعدة، فكم من مريض تمكن من تحقيق حلمه بالعلاج بعد أن جابت صوره هذا  العالم الأزرق، وأطلقت جمعيات خيرية نداء الإستغاثة لجمع مبالغ من المال تبدو تعجيزية في بادئ الأمر، إلى أن يصادفك منشور: حدثت المعجزة، تمكننا من جمع المبلغ المطلوب.

      الصورة ليست سوداء كلها، بل هناك شذرات من الأمل ، فجميعنا سمع بفضيحة تمثال الشهيد الرمز “محمد العربي بن مهيدي”، لم نكن لنسمع بذلك لولا الحراك الذي بدأه نشطاء على الفايسبوك،   توجوه بتأييد شعبي كان نتاجه نزع التمثال المهين ومحاسبة المسؤولين عن الفضيحة.
مثال أخر، ما يصنعه أبناء “أغزر نتاقا” بولاية باتنة بسلوكاتهم الحضارية وطريقتهم الفريدة من نوعها في رفضهم لمشروع مصنع الإسمنت في وسط منطقة تشكل متنفسا لقاطني المنطقة، حراك إنطلق من الفايسبوك وتجسد على أرض الواقع، وجعل الأمل قائما أن الكلام على صفحات “العالم الأزرق”، قد يثمر ولو بعد حين، شريطة أن لا يكون شعارنا في ذلك “من الفايسبوك وإلى الفايسبوك”.

     علينا أن نعترف بأننا كلنا ساهمنا في حالة الغرق في جدالات عقيمة، وثانوية بعض النقاشات، التي تجعلها الأحكام المسبقة، والإختلافات الإيديولوجية دورانا في حيز مغلق، و كلنا لاحظنا هذا التركيز على قضايا بعيدة عن التحديات اليومية للمواطن، فلذلك صار من الواجب الالتفاف حول قضايا مفصلية،والإهتمام بما بجمعنا، وترك ما نختلف فيه، عسانا بذلك ندفع عجلة تغيير الوجه السياسي والإجتماعي والثقافي للبلاد إلى الأمام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق