آراء وتحاليلنقطة تفتيش

المِلكية والذهنية

في المجتمعات الزراعية تكون الأرضُ امتدادا طبيعيا للبيت، لهذا يتمّ تسييج قطعة الأرض بسياج حجري أو معدني، بوصفها انتماءً حميميا للفضاء الخاص، وكل انتهاك لحرمة هذه المجال يعتبر انتهاكا للحياة الخاصة، وعند حدود تلك الأرض تبدأ حدود الملكية الخاصة بالجار أو ابن العم وهكذا تتتاخم المِلكيات الخاصّة دون أن تترك أية فسحة لظهور الفضاء العام. لهذا لا يمكن لمفهوم الفضاء العمومي أن يظهر في مجتمعات زراعية، وبالتالي يتعذّر على هذه المجتمعات أن تدخل أية حداثة.

في الجزائر، وبعد الاستقلال مباشرة ، زحف الملايين من سكّان الأرياف على المدن، في الستينيات كان ذلك للاستيلاء على السكنات الشاغرة التي هجرها الأوربيون، وفي السبعينيات كانت موجة النزوح الريفي نتيجة لسياسة التصنيع في المدن، في التسعينيات هربا من الإرهاب. هؤلاء النازحون حملوا معهم ذلك التصوّر عن العلاقة بين الخاص والعام، تصوّر ينطوي على انتفاءٍ كلّي لمفهوم المجال العام، واتّساع في امتداد المجال الخاص لكي يشمل “الحومة” إلى فضاء الحيّ السكني كامتداد لمفهوم (الحرمة) القَبَلي والرّيفي. فالحومة هي الفضاء الذي يحقّ فقط لأفراد القبيلة الجديدة، ويُتوجّس فيه من كل وافد أجنبي، كما أن نساء الحومة مثل نساء القبيلة يخضعن لنفس آليات “المراقبة والمعاقبة” التي تخضعن له نساء القبيلة الواحدة، فكلّهن أخوات وبنات عمومة يحظين بالحماية مقابل الولاء للأعراف. إن العمارة في الجزائر عبارة عن قبيلة عمودية من الإسمنت المسلّح.

 إن تاريخ تشكّل الجزائر، هو أيضا تاريخ تشكّل المدينة، لذا فقد ظلّت مسألة السّكن هي المفتاح الأساسي لفهم هذا التشكّل، ومنذ الفترة الاستعمارية، ظلّ السّكن هو السلاح الضارب في يد السلطة تلوّح به كلّما استشعرت خطر حراك شعبي أو انتفاضة أو تمرّد. يعود ذلك إلى مشروع “بلوم فيوليت” سنة 1926، لكن تجسيده الفعلي بدأ بسياسة “جاك شوفالييه” Jaques Chevalier عميد مدينة الجزائر العاصمة، سنة 1953 الذي استشعر خطر ثورة داهمة فشرع في بناء سكنات للجزائريين يمتص به غضبهم، والّذي يُعتبر اليوم من طرف معظم المؤرّخين رائد الإصلاحات الكبرى التي كانت ستتفادى قيّام ثورة مسلّحة لو جاءت قبل فوات الأوان. ثمّ جاء على خطاه مشروع قسنطينة الذي وضعه شارل ديغول، متأخّرا، والذي بُنيت خلاله أيضا آلاف السكنات في المدن الكبرى، وغداة الاستقلال أيضا ظهرت قضية “الأملاك الشاغرة” les biens vacants حيث هاجم الأهالي سكنات الأوربيين وعماراتهم واستولوا عليها، حتى قبل أن يغادرها هؤلاء.

وقد بقيت مُشكلة السكن ظاهرة اقتصادية واجتماعية ملازمة لتاريخ الجزائر إلى غاية اليوم، حتى ترسّخ في الوعي الجمعي أن الجزائري، بالتعريف، نازح ريفي مشرّد يعرض ولاءه السياسي لأول من يوفّر له سكنا في المدينة. لقد عمّقت سياسية بومدين التصنيعية المشكلة بدل حلّها، حيث أن إقامة الصناعات الثقيلة في المدن الكبرى، ولّد حركة نزوح ريفي ضخمة، كانت نتيجتها الأولى تفاقم أحزمة مدن الصفيح حول الحواضر، الواقع الذي هيّأ المجتمع لانفجار هائل في الثمانيات والتسعينيات. ولا تزال السلطة إلى اليوم تستعمل ورقة السكن في حلّ مشاكلها مع المجتمع.

معظم الجزائريين يعيشون زمنهم في حالة من الانتظار، إمّا انتظار سكن اجتماعي تمنحه له الحكومة، أو انتظار اكتمال سكن في حالة بناء، أو انتظار التخلّص من ديون قرض عقّاري عند البنك. الانتظار يدرّب النفس على الصّبر وقتل الوقت، لكنّه أيضا يورّثها الخضوع للزّمن والابتذال والاستسلام لحالة روتينية بين الأمل واليأس (للي يستنّى خير من للي يتمنّى) يقول المثل الشهير. لقد نسي الجزائري الذي أوع ملفّا في البرنامج الرئاسي الأخير  للسكن الأخير ماذا ينتر بالضّبط، هل ينتظر شقّته الذي سيتزامن اكتمالها مع الموعد الانتخابي القادم؟ أم ينتظر الحملة الانتخابية التي سترافقها حملة توزيع السكنات؟

بقلم اسماعيل مهنانة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق