آراء وتحاليل

يرحل جيل .. و يجب أن تشع أجيال

سنة الحياة أن الأيام متداولة بين الناس، يغادرها أشخاص، ويرى النور فيها اَخرون. يبزغ جيل و يأفل جيل، و أفول الأجيال، في أفضل الأحيان طبعا، يترك من الرصيد ما يمكن الجيل الجديد من مواصلة عجلة البناء و التشييد. اليوم بعد 62 سنة من اندلاع ثورة التحرير، تتسارع حركية انطفاء شموع من كان لهم دور صناعة ملحمة الجزائر، و هم المجاهدين.

صحيح أنه في المخيلة العامة أبطال الجزائر هم العربي بن مهيدي، علي لابوانت، حسيبة بن بوعلي،..ممن استشهدوا، و مجاهدين اَخرين مشهورين سطع نجمهم بين اَخرين كثيرين لعبوا أدوار كبيرة في مناطقهم، لم يسمع عنهم إلا في النطاق الضيق رغم التضحيات الجسيمة التي قدموها، و رغم الحياة المزرية التي عاشها البعض، على غرار زوجات الشهداء اللاتي نصبهن النظام عاملات تنظيف..

يوم الخميس الماضي انطفأت شمعة خالي احمد، و هو في الحقيقة خال أبي، لكن، تعودنا منذ الصغر التعامل مع أخوال أبي كأنهم أخوالنا. خالي، فارس أحمد من مواليد مدينة برج بوعريريج، ابن الحاج الكواشي. جدي الحاج الكواشي كما كان يلقب فتح بيته إبان الاستعمار ليصبح مدرسة يتعلم فيها البرايجية القراَن. دفع الحاج أولاده للنضال، منهم من استشهد و هو خالي فارس محمد و ابن عمه الحسين، منهم من عذب كثيرا في السجون كخالي فارس الطيب و زوجته  المجاهدة موني، منهم من كان من القادة السياسيين في الخارج كخالي احمد وجاهد كل من خالي بوبكر و قدور، و كلهم دخلوا سجون الاستعمار. و من جهة أخرى كان جدي والد أمي سعيداني علي و إخوته و هم من مالكي الأراضي يمدون المجاهدين بالمأونة، لذلك اقتيد إلى السجن، و شهد جسده، إلى أن أخد الله أمانته، علامات التعذيب.جدي لم يقبل يوما أن يتقاضى فلسا على نضاله أو أن يسجل اسمه في أي قائمة من القوائم. هؤلاء هم أيضا أبطالي، للأنهم هم و أمثالهم أيضا من صنعوا الذاكرة الجماعية.

كلما سمعت أن مجاهدا غادر الحياة، أتذكر التاريخ و كتابة التاريخ. أتساءل، هل كتب مذكرات؟ هل دون مساره الثوري بأمانة؟ هل رغم سكوته في حياته، و رغم العيشة البسيطة التي أكمل بها حياته، هل كان واعيا بأن ما عاشه و ما قدمه يخصنا نحن جميعا، و لنا الحق في أن نطلع عليه، لكي نتصالح يوما ما مع تاريخنا و لو بعد رحيلهم..الحقيقة أنه غادر الكثير و لم يتركوا شيء، وفقدت العديد من الحلقات.

أطال الله في عمر المجاهدين الذين لايزالون على قيد الحياة، الأوفياء لنضالهم و للشهداء رفقاء الجهاد، و أتمنى أن الكثير ممن بقوا سيتركوا لنا أجزاء من الذاكرة، لأن  وتيرة انطفاء هذا الجيل  تتسارع، و هو أمر بيولوجي وطبيعي. أقول هذا لأنه لا يجب أن ننسى أن الأقلية التي استحوذت على الحكم بعد الاستقلال باسم الشرعية الثورية اسنتزفت الرصيد الثوري الذي صنعه الكثير من المجاهدين الذين هجروا الحياة العامة وأكملوا حياتهم في صمت. النتيجة اليوم هو أن الكثير من جزائريي الجيل الجديد لديهم نظرت سيئة عن المجاهدين و يربطون هذه الفئة من الشعب بالامتيازات المادية التي تحصلوا عليها و بعضها كان عائقا في وجه الأجيال الجديدة، و هذا أمر خطير على الذاكرة.

أنا فخورة بانتمائي إلى عائلة ثورية، أورثت أبي بذور النضال، و هو أورثنا إياها، و فخورة أن يكون لبلدي ماضي ثوري يرفع من شأني بين الشعوب، وأنا متأكدت أنه لن تنقطع سلسلة زرغ بذور النضال في أرض سالت فيها دماء الشهداء. و في كل بقعة من بقاع الجزائر، هناك عائلات لها قصصها الثورية، و ماضيها النضالي، هي أيضا ستواصل زرع هذه البذور الطيبة التي ستعطي أجيال يجب أن تواصل ما هو معطل، ما هو متوقف و تبني حاضر و مستقبل مشع، مشع إشعاع الجيل البطل الذي لا يجب أن نقتله بعد أن استشهد..

الثورة الجزائرية كانت من أعظم الثورات التحررية في القرن العشرين، و نحن كأبناء القرن الواحد و العشرين لا يجب أن نترك هذا الإرث التاريخي المشرف يندثر لأن فئة قامة بالمتاجرة بدماء الشهداء و باستغلال الماضي الثوري. علينا أن نعتني بجمع حلقات الماضي و تدوينها للأجيال و للتاريخ، بحلوها و مرها. يجب أن نستغل هذه الملحمة النادرة في تاريخ الشعوب لغرسها في أولادنا عند تربيتهم لكي يكونوا فخورين بماضيهم ولتكون لهم حافز من أجل مواصلة الحفاظ على الوطن و بنائه و مواصلة طريق الجدود.

بقلم مريم سعيداني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق