آراء وتحاليلهكذا أفكر

ذهنية العسكرة و ثقافة الدمقرطة : الدولة والمجتمع.

 

سنعرج، فيما تسيزيف،الاسطورة والحقيقةسمح به مساحة المقال، على دراسة العلاقة بين “العسكري ” و”السياسي” وعلاقتهما ب”السلطة”. سنحاول أن نتتبع بعضا من آثار “ذهنية العسكرة والانقلابات” من خلال تجارب أمم أخرى بأمريكا اللاتينية وإفريقيا والبلاد العربية وكيف حالت دون التمكن من تأسيس دول ومجتمعات حقيقية بإمكانها “الارتقاء” الى “ثقافة الدمقرطة”. وانطلاقا من معاينة التجارب المرتبطة بالعسكرتاريا نحاول أن نقرأ “المخاض الجزائري” في لحظة تقاطع تجربة العسكرة والحزب الواحد بدسترة التعددية وتراجع  الجيش التكتيكي عن الظهور السياسي المتحزب في الحياة العامة ثم عودته بانقلاب ثلاثي على الشعب والرئيس والدستور. كيف ستتعايش العسكرة مع الجمهورية وكيف ستدير “حربا أهلية ” و”ومصالحة وطنية” و ما بعدها؟و ما هي أدوارها المحتملة حيال الفراغ والانسداد السياسيين اللذين تمر بهما البلاد وهل ستعود ذهنية العسكرة مجددا وكأننا نعيد إنتاج جزائر 1962، 1965،1979، 1992 وتداعياتها الى اليوم؟؟

لا نزعم الإجابة، من خلال هذا المقال، عن كل هذه الأسئلة المعقدة والكبيرة. ولكننا نحاول وضعها في اطر تاريخية ومنهجية تعيننا على الفهم قيما سنقدمه من مقالات لاحقة. و
انطلاقا، سنركز على “ذهنية العسكرة” وآلياتها الانقلابية على ضوء تجربة الجزائر وتجارب إنسانية أخرى منها التي نجحت ومنها تلك التي لا زالت تراوح مكانها أو ربما ازدادت ترهلا وتعقيدا.

 

تميزت جزائر  ما بعد 1989 بتسارع كبير في تفتق مختلف الظواهر حيث تكاثرت الأحزاب السياسية المبنية على الاختلاف في التنظيم و المرجعيات الإيديولوجية وكذا النقابات  والشبكات الإعلامية – عدا قطاع السمعي البصري الذي ظلت السلطة محتكرة له رغم ما يفرضه الدستور الجديد – .

كل ذلك ولد تراكمات ضخمة في أدبيات الخطاب السياسي والديني من ناحية وتجاذبان مطلبية واجتماعية أساسها الحركات الاجتماعية القديمة والمحدثة من ناحية أخرى.

 

وقد كان هدفها المشترك سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا إحداث سلسلة من الاصلاحات و التغييرات في غياب أدنى أشكال الإجماع على فلسفة مشروع اجتماعي مفتوح قادر على احتواء كبرى التيارات وتمكينها عمليا من ” العيش المشترك ” في ظل الدولة الديمقراطية الوليدة.

أما الجيش و المؤسسة الأمنية فتأزم وضعهما بعد تصادمهما المباشر مع الشعب في أحداث أكتوبر وتعارضهما مع النصوص القانونية الجديدة مما اضطرهما في مارس 1989 (كتعبير من السلطة حينها عن حسن نيتها في إصلاح النظام السياسي)إلى الانسحاب الظاهري من المشاركة في العمل السياسي الحزبي حيث تم الإعلان الرسمي عن خروج العسكر من اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني ( بلغ عددهم 800 من مجموع 4000 عضو أي 1/5). لقد كان ذلك مبشرا ايجابيا للأغلبية المنتخبة و النخب المدنية سواء أكانت حزبية أو تكنوقراطية مستقلة. أما ” العسكر ” فيتقيدون بوظائفهم الدستورية.

غير أن ذلك التحول ما كان ليطول أمده حتى عادت معالم تدخل الجيش في الشأن السياسي ليبرز من جديد بدعاوى وحوافز لم تكن فقط من”تيار” داخل النخبة العسكرية الجزائرية بل وبصفة أهم واخطر من وسط الطبقة السياسية و المدنيين أنفسهم لاعتبارات كثيرة نسوق منها أربعا:

 

  • المجتمع لم يبلغ بعد إلى الثقافة الديمقراطية ويحتاج لزمن أطول لاكتسابها.
  • ابتذال مدلول الحريات الفردية والعامة وبداية انزلاق الحياة الديمقراطية نحو الفوضى.
  • بروز استغلال قيم الديمقراطية لأغراض دينية أو عرقية ثقافية انفصالية.
  • الجيش هو المؤسسة الوحيدة المنظمة المنسجمة و القادرة على حماية الدستور و البلاد.

 

و لم يستمر المسار الديمقراطي إلا سنتين حتى اتضحت سلوكيات ” الانقلاب” عند الفاعلين الرئيسيين في البلاد :

 

– الإسلام السياسي المتطرف الذي أعلن صراحة تكفيره لغير أتباعه ورفضه المطلق الدولة الحديثة ومؤسساتها الغربية الوافدة.

– العلمانيون الجمهوريون النافذون في دواليب السلطة عموما و المؤسسة العسكرية خصوصا الذين أعلنوا صراحة أيضا عداءهم لأي ديمقراطية تعطي الأغلبية لحزب تيوقراطي هدفه إعادة بناء المجتمع الإسلامي الأول من خلال أسلمه جديدة للمجتمع الجزائري..

 

تلك المواجهات(لغاية الانتخابات التشريعية 1991) التي تسترت بغطاء الايدولوجيا تارة والمصلحة العليا للجزائر تارة أخرى، لم تكن سوى ذريعة للوصول إلى الحكم أو البقاء فيه أو على الأقل احتلال مراتب هامة فيه.مما أنتج مفارقة لم أجد لها مثيلا في دراستي لنماذج الانتقال الديمقراطي أو ممارسة الحكم في العالم .بحيث أن التيار الديني الذي كان يعتبر احد رموزه الكبار “الديمقراطية” معادية للإسلام بل وكفرا صراحا فيما بين 1989و1991 ،أصبح هو الذي يطالب باحترامها و الدفاع عنها بعد توقيف المسار الانتخابي في ديسمبر 1991 والإطاحة بالرئيس الشاذلي بن جديد في 11 جانفي 1992. أما التيار العلماني الذي تزعم مطلب الديمقراطية واحترام إدارة الشعب ورفع يد السلطة الجائرة عنه أصبح بعدها من احرص المطالبين و المناضلين من اجل توقيف المسار الانتخابي وتعطيل العمل بالدستور واعتبار” الشعب” في عمومه هذه المرة مصدرا للتقهقر و العودة بالجزائر إلى ما قبل الحداثة لأنه ببساطة غير قادر على اختيار الأحسن في إدارة مصيره.

 

أما الجيش، من جهته، فقد” أقحم نفسه” أو تم “توريطه” في أزمة سياسية بحثه اتخذت أبعادا أمنية خطيرة وصلت حد “حرب أهلية” عبثية بتعبير الباحث الاجتماعي و الانثربولوجي محفوظ بنون.كانت تكلفتها البشرية والمادية باهظة جدا.

صحيح أن المؤسسة العسكرية الجزائرية تاريخيا ولدت قبل ميلاد الدولة الوطنية في شكل ما عرف ب ” جيش التحرير الوطني”وقوة جيش الحدود التي أخذت السلطة بالقوة غداة الاستقلال وأسست لما سيعرف الى اليوم بالجيش الشعبي الوطني. بمعنى أن رسالته كانت تحريرية ثم تحولت بعد الاستقلال إلى انقلابية سياسية أو بتعبيره هو الى  قومية تنموية ..

 

ويجمع الباحثون في النظم السياسية العربية خاصة و في العالم الثالث عامة أن الجيوش كانت دائما ( ولازالت في بعض النماذج ) محور القرار و الخيارات الإستراتيجية الكبرى سواء بصفة الحكم المباشر أو عبر مواجهات مدنية،”فلقد أقامت هذه النظم تنظيمات شبه عسكرية من العناصر الموالية لها ، وعهدت إليها بمهمة سياسية  هي تامين وجودها واستمرارها (3). غير أن السؤال المرتبط بهذا البحث و المكمل للدورين التاريخيين اللذين لعبتهما المؤسسة العسكرية (في تجربة الجزائر مثلا) خاص بمدى الدور الذي لعبته ذات المؤسسة من عدمه في عملية التحديث السياسي وبناء نظام ديمقراطي مؤسساتي؟

هذا التساؤل عينه، بمعزل عن اختلاف تجارب الأمم، هو الذي طبع النصف الثاني من القرن العشرين في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق أسيا و أوروبا الشرقية وإفريقيا.

فقد ارتبط رهان التحديث و التغير الاجتماعي و مستقبل الاستقلالات الوطنية في مختلف بلدان هذه القارات بحل معادلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإفلات من فخ التبعية وتنمية التخلف. إلا أن التحديث ذاته رغم ما كدسه من تقانة ومظاهر العصر، إلا أنه أصبح عائقا بنيويا ومشكلة ثقافية على اعتبار الهوة المتزايدة بين الشمال و الجنوب. فالتحديث لا يعني الحداثة كما أن الحداثة ليست أنموذجا موحدا في تاريخيتها و تطورها.ولعلم الاجتماع الإنمائي   الدور الأبرز في وضع وتفسير آليات جملة من فلسفة التحديث.

إن ما نعته الاقتصادي الفرنسي الفريد سوفي Alfred Sauvy ب “العالم الثالث” كانت أنظمة حكمه في مراحل ما بعد الاستقلال تتراوح بين أنماط ثلاثة:

 

  • أنظمة شمولية استبدادية ذات الحزب الواحد.
  • أنظمة ملكية مطلقة.
  • أنظمة ديكتاتورية عسكرية.

وإذا ما قاربنا سوسيوسياسيا هذه الأنماط الثلاثة، فانه سيتضح لنا أنها أيضا نتاج خام لتحديث فوقي غير نابع من مختلف التراكيب الذهنية و النفسية و الاجتماعية لتلك الشعوب.فالدولة بوصفها أطرا وقيما تنظيمية وردعية غالبا ما كانت تتعارض و الثقافات التقليدية المحلية.ذلك ما يفسر فشل معظم دول ما بعد الاستقلال (ذات الاتجاه الأحادي) في تحقيق أهداف خطابها الرسمي من حيث التنمية وتكافؤ الفرص و الحرية والمساواة         و القضاء على تركة الاستعمار وقصم ظهر الفساد وبناء عدالة اجتماعية يخضع فيها الجميع لسلطة القانون واخطر من ذلك، غالبا ما اعتمدت القيادات البيروقراطية في تلك الدول على وسائل القمع و الإخضاع بغية تحقيق أهدافها السياسية. وبالنظر للاختلالات الناجمة عن ذلك وتصدع كل شبكات العلاقات بين الشعوب و أنظمة حكمها وبلوغها في كثير من الأحيان حد العصيان المدني وتحطيم كل ما من شانه أن يرمز للدولة، تجد هذه الأخيرة، أن كانت حزبا أو عصبا حاكمة، مضطرة إما للخضوع لواقع جديد تفرضه انقلابات عسكرية و محاسبية رموزها الكبار أو تعمل في ذاتها على استدعاء القوات المسلحة بوصفها ” المؤسسة الأكثر تنظيما و الأكثر قوة في المجتمع و التي بإمكانها مواجهة كل أنواع الأزمات السياسية و الاجتماعية. وهكذا يجد الجيش نفسه يؤدي مهمة سياسية غير وظيفته الأصلية في المجتمع” .

وفي هذا السياق ومن باب المثال، تقدم لنا تجارب أمريكا اللاتينية في الفترة مابين 1960 و 1985 (الأرجنتين، كوبا، البرازيل، الشيلي، بوليفيا، الاورغواي، البارغواي…الخ) في مسالة علاقة القوات المسلحة و النخب العسكرية و شبه العسكرية بالسلطة السياسية، حصيلتين أساسيتين في المجال المبحوث:

  • سوسيولوجيا عسكرية جديدة خاصة “بأمريكا اللاتينية”
  • تصنيف سوسيوسياسي للنخب العسكرية وتقاليد الانقلاب.

كما أن التجارب ذاتها أعادت النظر إلى حد ما في النظريتين الكبيرتين اللتين سادتا المرحلة التقافوية و الإنمائية( Théories Culturaliste et Developpementaliste)   و اللتين اشترطتا مسبقا جملة من العوامل (مستوى الثقافة، التعليم، الصحة، الدخل الفردي و المرتبة الاقتصادية) من اجل تحقيق الديمقراطية كما اشترطتا في المقابل الديمقراطية من اجل تحقيق الإقلاع الاقتصادي مثل ( البرازيل و الشيلي و الاورغواي).

 

وفي إفريقيا هي الأخرى كان الجيش دائما ( ولا يزال في الكثير من الدول ) “محور سلطة الدولة إن لم نقل هو النواة التي بنيت حولها الدولة الوطنية سواء في مرحلة التأسيس الأول تحت الاحتلال أو الحماية أو في مرحلة ما بعد الاستقلال ” الرمزي الممنوح” خاصة في الدول التي لم تعرف ثورات وحروب تحرر.

“إن إشكاليتي الجيش و السلطة السياسية في _إفريقيا_ متداخلتان ولا يمكن فصلها عن بعضهما البعض”. فقد عرفت الدولة الإفريقية فترات طويلة من التفكك عبر مفارقة التداخل الوظيفي (الجيش-السلطة) التي يعتبرها فريق من الباحثين طبيعية نظرا لظروف النشأة و التطور اللذين عرفهما. غير أن فريقا آخر يعتبرها مرحلية تمكن استمرار الدولة والجيش معا في حال الانتقال نحو نظام دستوري مؤسساتي. وبالنظر لذهنية الانقلابات، فان التصادم يصبح كارثيا عليهما معا كلما نشب نزاع بخلفية سياسية هدفها التربع على الحكم وما يعنيه من مصالح عرقية أو قبلية أو جماعاتية مادية كانت أو رمزية .

 

ويذهب مارك فونترييه Marc Fontrier إلى جذور الظاهرة معتبرا هشاشتها، علاوة على كونها تأسيس لكيانات غير أصيلة ومقطوعة عن التراثات الإفريقية، دلالة على ” استنساخ رديء ” لنماذج بناء الدولة الغربية ومؤسساتها العسكرية  . ويعتبر الجيوش التي نشأت مع خروج الاستعمار الأوربي “ضلالة” بل وغالبا ما كانت “توظف أساليبه” و يضيف فونترييه انه كان ” بإمكان الكثير من الدول الإفريقية الاستغناء عن جيوشها لأنها كانت في تكوينها وطبيعة ضباطها استمرارا للذهنية الكولونيالية عدا لون البشرة ” . وفي سياق الحرب الباردة في فترة السبعينيات، وتباعا لفشلها في إرساء دعائم بورجوازية متوسطة، راحت تبرر تحت غطاء الايدولوجيا الماركسية اللينينية، وهي أيضا دخيلة على المجتمعات التقليدية الإفريقية، إما ولاءها لسلطة استبدادية ولو كانت مدنية وإما إقدامها على الانقلابات اللامتناهية.

 

فإذا ما أخدنا خارطة الانقلابات العسكرية في منطقة إفريقيا الغربية والساحل الصحراء في الفترة بين 1964 و1990 سيتبين لنا جليا أن الجيش هو القوة المهيمنة على السلطة السياسية. و يبين التحليل الكمي أن أربع عشر(14) دولة من ست عشر (16) رزحت تحت حكم عسكري أي بنسبة قدرها 87.5 %. وأنه من مجموع واحد وتسعين (91) رئيس دولة في ستة عشر دولة، ثمانية وأربعون (48) منهم عسكريون أي بنسبة قدرها 52.47 % .

ويمكن توزيع هذه الدول على ثلاثة أصناف :

  • دول ذات أنظمة عسكرية طويلة المدى (نظام واحد أو أنظمة متعاقبة دون انقطاع (الطوغو، غينيا، غامبيا، بوركينافاسو، غانا، سيراليون).
  • دول ذات أنظمة عسكرية تتداول بين الفينة و الأخرى على السلطة مع أنظمة مدنية (ليبريا، البنين، كوتدي فوار،….الخ)
  • دول لم تعرف أنظمة عسكرية (السنغال، والرأس الأخضر) ولا تمثل سوى 12.5 % من مجموع الدول.

 

وإذا كانت” الدول الإفريقية مريضة بجيوشها وجيوشها ضحية دولها” فان دوافع العسكر للاستيلاء على السلطة متعددة ومتباينة.الأمر الذي يجعل من الصعب بما كان تحديد أسباب عامة مشتركة وجامعة.غير انه بالإمكان استخلاص البعض منها على ضوء الفترات الطويلة للحكم العسكري في إفريقيا. فإرادة وضع حد للفساد المستشري و دعوى حماية البلدان من مخاطر الانزلاقات الداخلية و التدخلات الأجنبية وفكرة بناء توازن اجتماعي داخلي( بين القبائل، طوائف الدينية أو المناطق ) أو حتى رفع الانسداد عن الأنظمة السياسية. أسباب كافية فيما تزعمه تلك النخب العسكرية في قرارها الإطاحة بأي نظام مدني أو حتى بطغمة عسكرية أخرى سابقة عليها.

ويخلص رمضان ايزول في دراسته لعلاقات الجيش-السلطة  إلى القول ” انه أيا كانت مبررات تدخل العسكر في الحياة السياسية فان الجيش في العالم الثالث يعتبر نفسه الضامن الوحيد للنظام السياسي”. و يلخص حوافز ذلك في نقاط ثلاث هي الأزمات الوطنية و الفراغ السياسي و الإرث السياسي و الثقافي.

 

وفي بحثه حول الظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء  يعزو مولود حمروش ذلك إلى عوامل معقدة جمة أساسها:

  • انهيار البنية الاجتماعية و السياسية.
  • العنف الاجتماعي المسلح ( الأحزاب، الطوائف، قبائل،…الخ)
  • استعمال الجيش للدفاع عن مصالح ذاتية خاصة بالنومونكلاتورا
  • وضعية ضباط الجيش المزرية اقتصاديا واجتماعيا.
  • النفوذ الأجنبي في أوساط القيادة السياسية و استغلاله للقدرات الاقتصادية للبلدان.

 

أما في العالم العربي، فظاهرة الاستيلاء على الحكم بقوة العسكر فأقدم فيها من إفريقيا السوداء  و تحليلها يبدو مختلفا بصفة شبه كلية من حيث أنماط وخصوصيات النظم السياسية العربية الحديثة بالإضافة إلى ذلك تأثرها الواضح خاصة في المشرق العربي بالتقاليد السياسية العثمانية.فالانقلابان العسكريان العربيان الأول و الثاني حدثا في العراق (1936) و سوريا (1949) بقيادة ضابطين يشتركان في التنشئة العسكرية العثمانية و الأصل الكردي.

 

و في إحصاءنا لعدد الانقلابات الناجحة و محاولات الانقلاب منذ الأربعينيات من القرن الماضي يتضح أن البلدان العربية لم تعرف أبدا استقرارا سياسيا و اجتماعيا داخليا منذ استقلالها الوطني. فقد بلغت في مجملها ما يناهز المائة انقلاب أي ما يمثل 27% منها في العالم الثالث و أن 53% منها (سواء نجحت أو فشلت) كانت من نصيب العرب .

 

و مجمل الحديث أن الجيش في معظم الدول العربية بوصفه إرثا تاريخيا أو فاعلا سياسيا و اجتماعيا داخليا: تحول إلى العنصر الحاسم في ضمان استمرار الحكم و بالتالي حاد عن وظيفته الرمزية أو الدستورية كحاكم للإقليم من الاعتداءات الخارجية و ضامن للاستقرار داخل الحدود الوطنية. لقد أضحت مهمته في غالب الأحيان أمنية داخلية كرد فعل قوي للأجهزة الأمنية الأخرى بل و تزايد الاعتماد عليه في حل نزاعات ذات طابع سياسي أو اجتماعي. الأمر الذي يجعل دائما من الجيش مصدرا للسلطة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يدير خيوطها من قريب أو من بعيد أو يستعيدها لمبررات أمنية يختلقها بنفسه أو تحت غطاء دعاوى سياسية تأتي من “طبقة سياسية” فاسدة “تستنجد به” كلما بلغ الانسداد أشده أو حانت “الدورة السياسية” لتداول عصبوي على الحكم من داخل نظام الحكم ذاته وبعيدا عن كل شرعية شعبية ومؤسساتية دستورية حقيقية .

إن هذه الذهنية تخيم على مجمل الأنظمة و لا يجد «العسكر”، بتواطؤ من قوى خارجية و”موالاة بيروقراطية وسياسية” داخلية، أي صعوبة في تبرير الاستيلاء على الحكم بهدف ” الإنقاذ و الخلاص” و”الحفاظ على الكيان الدولتي القائم” كما حدث في مصر أو بخلفية ضرورة “إدارة مرحلة انتقالية ” يستمر فيها النظام من جهة ويحافظ فيها على “مصالح” مختلف الأطراف دون تصادم علني من جهة أخرى كما تدل عليه مؤشرات الحالة الجزائرية القادمة.

هي إذا معادلة “العسكرة والدمقرطة” المعلومة نظريا والمتعددة المجاهيل إجرائيا نظرا لفشل ميلاد الدولة والمجتمع والنخب والفواعل البديلة. وذلك هو موضوع مقالنا القادم بحول الله.

فضيــــل بومـــاله

_______________

تنبيــه:
1. موضوع مقالنا يحتاج الى “مرصد ” للقوات المسلحة و الأنظمة السياسية ولمركز بحوث يدرس “علاقات المدني بالعسكري” . ويحتاج لتحديث مستمر ودراسة حالات جديدة تفرضها التطورات السياسية هنا أو هناك. وهنا نعول على ذكاء ورصد القراء لمختلف التجارب.

  1. عديدة هي الأسئلة التي يطرحها المقال والتي لا يجيب عنها إلا بإحالات خفيفة. وذلك راجع لسببين: كونها تحتاج لأطروحات بذاتها من جهة وعدم قدرتي الفردية على إيفاء كل مفاصل وتفصيلات الموضوع حقها في بعض الفقرات.
  2. للمقال إحالات ومراجع دقيقة. ولمن أراد الاطلاع عليها أو تعميق النقاش حول المسألة مراسلتنا على العنوان : fboumala@tariqnews.dz

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إغلاق